لا وجود لإنجاز سياسي مباشر، أو متوخى، من إعدام تنظيم «داعش» الرهينة الأميركي «الثالث» بيتر كاسيغ، على الأقل لا وجود لرسالة موجهة إلى الإدارة الأميركية بصفتها المعني الأول برعاياها. فذبح كاسيغ لن يضعف عزمها على محاربة التنظيم، ولن يقويه أيضاً حيث من المرجح أن تكون أخذت بالحسبان سلفاً إقدام التنظيم على مزيد من عمليات الذبح. وعلى رغم أن مواطنه جيمس فولي كان ناشد الإدارة الأميركية، قبل ذبحه، التوقف عن ضرب مواقع «داعش» إلا أن ذبحه أيضاً أدى الرسالة الحقيقية للتنظيم، وهي إغلاق الباب أمام أي نوع من التفاوض حول مصيره، إذا كانت ثمة فرصـــة لأمر مماثل عبر القنوات الاستخباراتية السرية.
مغزى القول إن ذبح الرهائن على هذا النحو خارج الحسابات المعهودة لعمليات الخطف، وإن بدا يستأنف إرثاً من عمليات خطف الأجانب وإعدامهم في المنطقة، بل هو يخرج بنا عما نفهمه من كلمة رهينة، بوصفها أداة مقايضة لقاء مطلب ما. ولــــعلنا في الاعتبار الأخير نستذكر إرث عمليات الخطـــف التي انتهى قسم منها بإعدام «الرهائن» الغربيين، من أجـــل مطالب سياسية كبرى يستحيل تحقيقها بهذا الأسلوب، وحينـــها كانــــت النتيجة تُبرَّر بتسليط الضوء في الإعلام الغربي في تلك المناسبات على «قضايانا العادلة»! من هذه الجهة، «داعش» أكثر وضوحاً وواقعية، إذ ينظر إلى المحتجزين لديه كأسرى لا كرهائن، ولا يطالب بما هو مستحيل التحقيق من قبل أعداء لا يعترف أصلاً بجدوى السياسة في التعاطي معهم.
على صعيد متصل، ليس مهماً هل يزيد إعدام الأسرى تصميم الغرب على قتال «داعش»، لأن الحرب ضد الغرب هي في الأساس العقيدي للتنظيم، وأن يتحمس الغرب لها في المنطقة قبل أن يُغزى في عقر داره، أمر يوفّر الوقت والتخطيط. مع ذلك، لا يمكن الجزم بأن إعدام الأسرى غايته الكبرى توريط الغرب، المتورط أصلاً بالمنطقة من منظور «داعش»، ومن منظور أنظمة المقاومة والممانعة التي حكمت هذه البلدان بعد الاستقلال، وأيضاً من منظور حركات المقاومة والممانعة التي لم يتسنَّ لها استلام الحكم أو الهيمنة على دولها. وأن يُعد، وفق ما هو دارج من تحليلات سياسية، إعدام الأسرى الغربيين وسيلة استقطاب لمزيد من المنتسبين إلى «داعش» فذلك كناية واضحة عن «الشعبية» المتوقعة لفعل الإعدام «الذبح»، مرة أخرى تحت لافتة العداء للسياسات الغربية في المنطقة.
ثم، إن ردَّ فعلة «داعش» إلى محض عصاب إسلامي يفترق عن الافتراض الأخير المتعلق بعداء معمم للسياسات الغربية، إلا إذا أخذنا على محمل الجد المقولات الثقافوية التي اكتشفت أخيراً استعدادات «داعشية» مقيمة في ثقافة المنطقة ككل، لا تختلف عن هذا تبرئة الشق السياسي للدين من «داعش». على صعيد العلاقة بالغرب تحديداً، القول إن أنظمة الاستبداد تنتج «داعش» وأشباهه ينبغي ألا يؤخذ على قاعدة التطرف الذي ينجب تطرفاً مقابلاً له، لأن الموقف الثقافي من الغرب في أنظمة الاستبداد، بخاصة الأنظمة والحركات القومية العربية، هو الأب الشرعي المباشر لحركات التطرف الإسلامية، ومن المعلوم أن الأنظمة والحركات القومية كانت السباقة في تبني الإرهاب العابر للحدود كوسيلة يُفترض بها تحقيق غايات سياسية، وأصرت على الاستمرار به على رغم ثبوت فشله المرة تلو الأخرى.
وإذا كانت أنظمة الاستبداد والحركات القومية امتلكت قدراً من البراغماتية، بحيث تفصل في خطابها السياسي بين سياسات الغرب والعداء المطلق له، إلا أن العداء المطلق استغرق خطابها الثقافي على نحو لا تصعب رؤيته. الغرب، على رغم علاقة النخبة «الاضطرارية» به، يبقى الغرب «العدو» على مستوى «القاعدة» الثقافية العامة، ويبقى التعامل معه بمثابة خيانة وكفر، بل إن شبهة الليبرالية بإحالتها الغربية بقيت على الدوام تعادل ارتكاب الخيانة العظمى.
كانت عقود ما بعد الكولونيالية بمثابة عهد لتصفية الإرث الاستعماري ككل، والقضاء على ما خلّفه الغرب من آثار ينبغي ألا تمتلك صفة الديمومة. أو على الأصح، كانت حقبة التخلص من آثار الانتداب، وإلصاق أية ميزة إيجابية له بمفهوم الاستعمار ليتسنى الانقضاض عليها بسهولة.
وفي حين كانت الترسيمة الثقافية لعصر النهضة تريد من الغرب استيراد آليات تقدمه، والاستغناء عن المنظومة القيَمية الحاملة لها، جاءت الترسيمة الثقافية لحقبة ما بعد الكـــولونيالية لتكتفي مــن الحداثـــة الغربية فقط بوسائل التحكم والسيـــطـــرة. هكــــذا مـــضت الأنظمة والحركات المشابهة لها في شكــــل حثيث للانقضاض على مخلّفات الغرب من الحـــقبة الكولونيالية. فالبرلمانات الديموقراطية جرى الانقلاب عليها، وتــــم استبدال التسمية (أو زعم تعريبها) لتتناسب مع المجالس الجديدة المنتخبة في عملية صُوَرية، وهكذا أُفرغت الرئاسات من مضمونها التداولي لتصبح مؤبدة، وهكذا تحول «العمل الشعبي»، ذو الصبغة الاقتصادية والمجتمعية في عهــــد الانتداب، إلى ما يشبه سخرة أو ضريبة قسرية، وهكذا لم تسلم المخططات التنظيمية للمدن، فتوسعت في شكل عشوائي يفتقر إلى أبسط أنواع التنظيم. ولم تسلم الأنظمة التعــــليمية والصحية والقضائية التي أرسيت دعائمها الأولى أيـــام الانتـــداب، فأُجهِز على أسسها الحيادية أو الرقابية، أي أُفرغت مثل نظيراتها من المضمون «الاستعماري» السابق.
«داعش»، وفق هذا المنظور، لا يعدو كونه الأكثر جذرية بين حركات التحرر، لجهة فك الارتباط التام والنهائي مع الغرب. انزياح التسمية من غرب إمبريالي متآمر إلى غرب كافر قد لا يكون ذا شأن طالما أن المبتغى هو فك الارتباط معه نهائياً. دولة «الخلافة» نفسها، إذ أُعلنت عن سكّ نقودها الخاصة لا تفعل جديداً بالمقارنة مع العملات الوطنية التي راحت تغزوها صور الرؤساء المؤبدين، وربما في عزلتها لا تجترح جديداً على المستوى العالمي، فقد سبق لأنور خوجا أن قاد ألبانيا إلى عزلة مطلقة تحت مسمى الوفاء للعقيدة الماركسية مقارنة بـ «التحريفيين» الروس والصينيين.
المؤسف أن الحلف الدولي ضد «داعش» لا يبدو في سبيله إلى المساعدة في التخلص من ثقافة «التحرر»، والمؤسف أكثر أن مراجعة محلية عامة لثقافة التحرر وما بُني عليها لا تظهر راهنة مع إنشاء «الدولة الإسلامية» بوصفها الأكثر تحرراً من الغرب. |