بعد أن فاضت بعض الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة بأحاديث خيالية عن "جهاد النكاح"، بحيث أشبعت رغبات بيولوجية مكبوتة لدى قسم من الرأي العام، كما أنها تجاوبت مع طروحات المؤامرة والممانعة، المتضخمة سرطانياً في عقولٍ شابها التشويش الإيديولوجي والشلل الأخلاقي، أضحى "جهاد الأوروبيين" واقعاً ملموساً على الساحتين العراقية والسورية. فكما بدا لجميع منظمات التقصّي الدولية أن اسطوانة الحديث عن جهاد النكاح كانت فانتازيا "مغرضة"، متأتية من رغبة منحرفة المقصد، ومبكرة الدلالة على موقف رافضٍ خيارات من قرر الاحتجاج في سورية، ووسمه بكل الموبقات تيمّناً بالنظام، يبدو انخراط آلاف الشبان وبضع عشرات من الشابات القادمين من مختلف البلدان إلى المنطقة في العصابات المتطرفة، المتطفّلة بقوة ذاتيةٍ، وبعدٍ إقليمي على الثورة السورية، حقيقةً.
وبعد أن تشعّب الحديث المُسند حول جذب المقتلة السورية لشبابٍ مسلمٍ متجرّدٍ من التطرف، وأميل إلى "الأممية الإسلامية"، حيث رأى في مجريات أحداثها مجزرةً بحق أبناء "الأمّة"، كما سبق وجذبت حركات يسارية في تاريخٍ أوروبيٍ قريبٍ جموعاً من الشباب اليساري "المؤمن" بقضية نضالية، كما في الحرب الأهلية الاسبانية، إلا أن الاستمرار في وضع هذا التبرير الذي كان له بعد واقعي في مقدمة المشهد، هو هروب من مواجهة واقعٍ مُرٍّ ومحزن.
هناك آلاف ممن أتوا ليَقتلوا ويُقتلوا في سورية. منهم من نظّمته أحزاب وجماعات شرعنت وجودها التسلطي في دول الجوار قوة أمر واقع، كما في العراق ولبنان، وانضم إلى مقاتلي النظام بحجج دينية/جهادية/ارتزاقية. ومنهم من قدِم مُجنّداً افتراضياً عبر وسائل التواصل المتطوّرة من خلال شبكاتٍ إرهابية/جهادية، تسعى إلى قتل الآخر من غير المعميين على قلوبهم وأبصارهم، مهما كان هذا الآخر، مُعمِلةً فيه أحكاماً "قراقوشية" المصدر والاجتهاد، دموية التنفيذ وسادية التعبير وهمجية المنحى.
مئات، بل آلاف منهم أتوها مزمجرين من أوروبا. حيث من فرنسا وحدها بلغوا 1200 نفر كما ذكرت مصادر. ومن حسنات علم الاجتماع الغربي أن فيه أبواب دراسة لمختلف الأبعاد السوسيولوجية والجيوسياسية والدينية والأنثروبولوجية لكل ما يمكن أن يتأتى من ظواهر "مقلقة"، أو مفجعة. حيث تُبين الدراسات التي أجريت، حتى الآن، أن الانضمام إلى عصابات داعش يتم أساساً عبر الجذب الترغيبي أو الترهيبي، من خلال الإنترنت، حيث إن مكاتب التجنيد لا تحتاج إلى أكثر من جهاز كومبيوتر محمول مع اتصالٍ بالشبكة العنكبوتية، لاستعراض مجمل المحفّزات لهذا الانضمام.
حيث تتنوّع هذه المغريات من "جهادٍ" في سبيل رؤية مشوهة للنص الديني الذي حُرم من التجديد والاجتهاد منذ قرون، إلى إشباعٍ لأمراض جنسية، بربط الموت في سبيل الموت بحورياتٍ واعداتٍ باشقاتٍ، ينتظرن "المجاهد" المكحّل المعطّر، بعد أن يلبي النداء، ويقتل ما تيسّر لملاقاتهن، إلى محاولة شراء التوبة، كما أقنعهم المُجَنّد الافتراضي، جرّاء ما اقترفته أيديهم أو ألسنتهم أو أجسادهم في بلاد "الزندقة والكفر".
وقد تبين للباحثين، أيضاً، أن منابت الشبان الملتحقين بهذه الجماعات متنوعة، وليست على سوية اقتصادية أو اجتماعية أو علمية واحدة. مع ذلك، غلب المصدر الجنائي على عديدٍ منهم. فلدى بعضهم نشرة شرطية حافلة خصوصاً بتهريب المخدرات وتجارتها، كما الاعتداءات المسلحة أو الدعارة ومشاربها المتنوعة، رجالاً ونساءً. مع ذلك، تجد منهم تقنيين بارزين في مجالاتهم، كما أدوات التواصل والهندسة، أو حتى الإدارة المالية، ما يُفسّر "الإنجازات" الإعلامية المتكررة، والتي تعتمد على "جاذبية" رائحة الموت وطعم الدماء ومشهد الجثث. وأضحى مدمنو ألعاب الفيديو العنيفة من أهم مستهلكي مشاهد القتل الداعشية وملحقاتها.
وأوضحت الدراسات، أيضاً، أن جزءاً لا بأس به ممن يَقتلون (ولا يُقاتلون) في سورية من المنخرطين الجدد في الدين الإسلامي. وحتى من هم منهم أولاد الجيل الثاني، أو الثالث، من المهاجرين المسلمين، فالغالبية منهم لا تتقن العربية، بل وحتى هم لا يجيدون مبادئها الأساسية. ولاحقاً لهذه الملاحظة، يتبين أن جُلّهم جاهل بأساسيات الدين الإسلامي، إلا ما تلقفوه على أيدي أئمة الجهل والتجهيل، ممن يعاقرونهم في أقبية الأبنية الفقيرة، والتي يسمونها ظلماً مساجد. كما وأنهم ينهلون "علمهم" من ترجمات الفضائيات الدعوية التي مارست الظلامية أغلبها. وحيث أنها ساهمت في منع الوعي من أن يُصيب بعض العقل المسلم، ويُطور ملكاته الجدلية والتحليلية المساعدة في وضوح الرؤية، ذات البعد الأخلاقي والإنساني والتعايشي، المُحمّل في الرسائل السماوية.
ويشير الانتشار "الهوليودي" لصور بعض الفرنسيين إلى أن قرار هؤلاء هو الموت، وليس العودة. هو الموت بعد قتل نفوس بشرية لشراء موطئ قدم في "جنّة"، مشتهاة بكل أبعادها الحسية، وبلا أي بعدٍ أخلاقي أو روحي لها.
اقترفت الأنظمة الاستبدادية العربية أشنع الجرائم المباشرة بحق شعوبها، لكنها، أيضاً، ابتكرت أقذر الوسائل لتسخير الظلامية في خدمة سلطويتها، وللابتعاد عن إحكام العقل والمنطق. في المقابل، فإن إدارة المسألة الدينية في الغرب من بعض القابعين تحت سيطرة الأنظمة نفسها، المالية على الأقل، أدت إلى رفع سوية الجهل بالإسلام لدى من أراده من الغربيين ديناً.
سلام الكواكبي كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا |