التحديات التي تواجه دول الشرق الاوسط ومجتمعاتها في ما يخص العائلة، واستطرادا في الشأن التربوي والثقافي والاجتماعي، غير مسبوقة في حجمها ومضمونها وتداعياتها. وهي تختلف عن تلك التي تواجهها العائلة والمجتمعات في مناطق اخرى من العالم. ثمة تساؤل شغل بال أعلام النهضة العربية في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعبّر عنه شكيب ارسلان في كتاب بعنوان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ واكب العرب التحولات التي شهدها العالم لاسيما بعد الحرب العالمية الاولى التي أرست قواعد جديدة في العلاقات بين الدول وداخل مجتمعاتها. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتفرز أسوأ بشاعات السلوك البشري في ممارسة الحكم الشمولي في الدولة والمجتمع.
وبين الحربين العالميتين، سار العالم العربي في اتجاهات سياسية واجتماعية شبيهة بتلك التي شهدتها دول عديدة في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، زمن الاستقلال في العالم العربي ودول العالم الثالث، لم تخرج دول المنطقة عن المسار العام بعد ان وصل العسكر الى السلطة في حقبة الايديولوجيا، القومية والماركسية وسواهما.
الا ان الشرق الاوسط تميّز عن سواه من الانظمة الاقليمية الاخرى في مسألتين: اولا، الانتقال من الدولة الامبراطورية والخلافة الاسلامية الى دول جديدة طرح اشكالية دور الدين وموقعه في الدولة الوطنية؛ وثانيا، نشوء دولة اسرائيل في 1948، ما ادى الى نزاع مسلح هو الاطول والاكثر تعقيدا بين النزاعات الاقليمية المعاصرة. وكان لهذين الحدثين أثر مباشر في اوضاع المنطقة ومسارها الاجتماعي والسياسي. ففي حين سقطت الانظمة السلطوية المعسكرة في عدد من دول العالم الثالث في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، ولاحقا في التسعينات في اوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب الباردة، ظلت انظمة الحكم في العالم العربي على جمودها.
اما المسألة الدينية فهي اكثر تعقيدا، خصوصا ان العالم العربي والاسلامي شهد تحولات في اتجاه إبعاد الدين عن الدولة، وفي بعض الحالات، بوسيلة الاقصاء، كما حصل في تركيا على يد اتاتورك، الذي فرض العلمانية على الدولة والمجتمع، او في ايران في مطلع القرن العشرين بتأثير من النموذج التركي. كذلك اطلقت بعض المرجعيات الاسلامية حركة اصلاح لكن سرعان ما عادت الامور الى الراديكالية والتشدّد ومن ثم الى العنف والتكفير.
وجاء الشرخ المذهبي ليزيد الامور تعقيدا، وعلى خلفية سياسية، لا بين مرجعيات سياسية او دينية، مثلما كانت الحال في مراحل سابقة، بل بين دول. هذا الحراك الجديد، اضافة الى الصدام الدامي بين العراق وايران ودخول منطقة الخليج في دوامة حروب لأسباب متعددة، ادى الى تسييس الدين المُمَذهب بوتيرة غير مسبوقة منذ نشوء الاسلام الى اليوم. وليس بعيدا من ايران الاسلامية، تركيا العلمانية تحاول العودة الى جذورها الاسلامية بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي لم يلبث ان احرق المراحل سعيا وراء اوهام امبراطورية.
وفي العالم العربي وصلت الحركات الاسلامية في السنوات الاخيرة الى الحكم لاسيما في مصر واستأثر الاخوان المسلمون بالسلطة واصطدموا بالمجتمع والدولة، وبالمؤسسة العسكرية تحديدا. وفي سوريا والعراق جاء تفكك الدولة وانهيارها ليفتح الباب امام اخوان "القاعدة" لممارسة العنف والقتل.
الاديان كلها شهدت حقبات تَداخَل فيها العنف بالمقدس باسم السلطة المنبثقة من الدين او من الحكام الطغاة. الا انها ازمنة ولّت في الغرب والشرق، وهي الآن تعود بقوة واندفاع في العالم العربي والاسلامي. العنف الديني في العالم العربي انتجته ثقافة اقصاء الغير المختلف، وكأن الارادة الالهية غايتها الثأر والانتقام. والخطورة تكمن في ان يعتاد الناس على التلقي السلبي لممارسات العنف، الفردي والجماعي، لاسيما مع تعميم مشاهد العنف في وسائل الاعلام كأي خبر عادي من الحياة اليومية.
فمن مقولة صراع الحضارات في زمن "القاعدة" الى صراع ما قبل الحضارات في زمن "داعش" والتنظيمات الجهادية السلفية، دخل العالم العربي والاسلامي في زمن الانسان البدائي حيث لا قيمة للانسان أو حرمة او حقوق.
في ازمنة ما قبل الحضارات لم يكن للعائلة دور على المستويات الاجتماعية والثقافية كافة، ولا للمدرسة وجود أو للأديان حضور. المجتمعات العربية والاسلامية تواجه اليوم تحديين: فلتان في استعمال العنف بكل مظاهره، في المنزل والمدرسة والمجتمع؛ وطفرة في المقدس في الدين والدنيا والسلطة بأشكالها المختلفة. والاثنان- العنف والمقدس- من صنع البشر، ويوظفان في الصراعات السياسية والاجتماعية. لعل اسوأ مظاهر التراجع يحصل عندما يلتقي العنف مع المقدس في الشأن العام وفي ممارسة السلطة، دينية كانت ام دنيوية. فاذا كان الجهاد او التكفير وسواهما مفاهيم دينية فلا بد من توضيحها من المرجعيات الدينية بكلام لا يحمل التأويل والالتباس.
ففي حين يدور النقاش بالنسبة الى العائلة ودورها في المجتمعات الغربية حول حقوق المرأة ومسائل اخرى مرتبطة بمبدأ المساواة، فإن هموم الناس في مجتمعاتنا تتمحور حول تأمين الحد الادنى من العيش اللائق بكرامة الانسان وحريته والمواطنية العادلة والحق بالمساواة. في مقياس القرن الحادي والعشرين، انها هموم ما قبل الحضارة المعاصرة وتراكم القيم التي صنعتها الاديان والحضارات.
في المجمع الفاتيكاني الثاني انفتحت الكنيسة الكاثوليكية على ذاتها وعلى الغير، ولا بد من حركة اصلاح جذرية في العالم الاسلامي واعادة الاعتبار الى قيم الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة والى تربية الفرد على استقلالية الرأي. الحقيقة لا يحتكرها اي دين او حاكم او مجتمع.
نائب واستاذ جامعي لبناني |