التاريخ: تشرين الثاني ١٩, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
فوكوياما: الربيع العربي من منظور المركزية الأوروبية - محمد شومان
منذ كتابه «نهاية التاريخ» عام 1992، صار فرنسيس فوكوياما واحداً من أهم المفكرين السياسيين وأشهرهم، على رغم كثرة الانتقادات النظرية التي طاولت المؤلف والكتاب، وعلى رغم الأحداث والتطورات العالمية التي أضعفت صدقية مقولات فوكوياما وتوقعاته في شأن هيمنة اقتصاد السوق وانتصار الديموقراطية الليبرالية، وتراجع دور الدول الاستبدادية ومكانتها.

لكن الصين تطورت اقتصادياً، وتعثر التحول الديموقراطي في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، وتراجعت القوة الاقتصادية والعسكرية الأميركية، ودخل الاتحاد الأوروبي في أزمات اقتصادية وسياسية، كما أن الكثير من الدول التي حققت نجاحاً في التحول الديموقراطي ومنها تركيا وسريلانكا ونيكاراغوا وتايلاند قد انزلقت إلى ممارسات استبدادية، أو لا تزال تعاني الفساد مثل رومانيا وبلغاريا. والمفارقة أن فوكوياما يعترف بهذه التطورات وبمشكلات في الممارسة الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في دول ديموقراطية عريقة، ومع ذلك يدافع عن رؤيته في شأن حتمية انتصار الديموقراطية الليبرالية، وعن مجمل أطروحاته والتي لم يسع إلى مراجعتها أو تجديدها، لذلك يعتقد بعض الباحثين أن فوكوياما حبس نفسه داخل صندوق «نهاية التاريخ» وانتصار الديموقراطية الغربية، باعتبارها الفصل الأخير في التطور البشري.

أعتقد أن فوكوياما يسير على نهج أصحاب المشاريع الأيديولوجية الكبرى الذين يصعب عليهم لأسباب كثيرة التخلي عنها أو تعديلها. من هنا، استكمل فوكوياما شغفه أو غوايته في مجلدين صدر الأول عام 2011، وتناول فيه نشأة النظم السياسية وتطورها، وصدر المجلد الثاني منذ أسابيع عدة في عنوان النظام السياسي والتحلل (الاضمحلال) السياسيPolitical Order and Political Decay الذي يستكمل فيه تطور النظم السياسية وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تشهد ما يصفه بـ «عولمة الديموقراطية»، وهي عولمة صاعدة من وجهة نظر فوكوياما المتحيز أصلاً إلى حتمية تحول البشرية إلى الديموقراطية الليبرالية.

ويبرهن فوكوياما عبر سرد وتحليل تاريخي مطول أن التحول الديموقراطي يتطلب طبقة وسطى قوية وناشطة، ودولة قوية، وسيادة القانون، والشفافية وآليات المساءلة. إنه درس التاريخ الذي يقدمه فوكوياما في مجلدين يحكي فيهما قصة السياسة والحكم من الثورة الفرنسية إلى ما يعرف بالربيع العربي، وصولاً إلى الاختلالات العميقة في النظام السياسي الأميركي، ويحلل في شكل مقارن أثار الفساد على الحكم في كثير من مناطق ودول العالم وكيف استوطن الفساد في بعض تلك الدول بينما نجحت دول أخرى في الحد من آثاره السلبية.

ووفق فوكوياما تواجه الديموقراطية الليبرالية تحديات التآكل الداخلي بسبب غياب الصدمة أو التحديات الخارجية، فالمجتمع الأميركي الثري والحر يعاني بعض مظاهر الفساد في المؤسسات الاقتصادية والسياسية، وهيمنة جماعات الضغط وزيادة الأنانية الفردية، ومع ذلك يؤكد فوكوياما أن المستقبل هو للديموقراطية في مواجهة: أولاً، الفقر الشديد والثراء الشديد، وثانياً، الاستبداد المتحالف مع بعض أنواع الرأسمالية المتعددة الجنسية، وثالثاً، الشلل السياسي في بعض المجتمعات الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة.

مهما كانت الصعوبات والإشكاليات التي تواجه حتمية انتصار الديموقراطية الليبرالية فهي صاعدة ومنتصرة، لكن رحلتها طويلة ومعقدة، وهنا يخرج فوكوياما من العلم إلى فضاء الأيديولوجيا التي أقصد بها هنا تزييف الوعي وبيع الأوهام حول هدف افتراضي، ولكنه حتمي من وجهة نظره، ومن ثم تتطابق رؤيته مع كل القائلين بالحتميات أمثال المبشرين بالمجتمع الشيوعي أو الدولة الإسلامية أو غيرها من «اليوتوبيات» التي يحلم بها الإنسان. هكذا، يقلل فوكوياما من أهمية الإشكاليات والتحديات الراهنة وخطورتها التي تواجه الديموقراطية الليبرالية، ويصادر في الوقت ذاته عن أي تطورات مستقبلية قد تبشر بتجارب أو أنواع جديدة في السياسة والحكم. لكن الأكثر خطورة أن فوكوياما ربما قدم قراءة تاريخية لتطور النظم السياسية في شكل متحيز يخدم رؤيته الخاصة بحتمية انتصار الديموقراطية الليبرالية، وبالمركزية الأوروبية والصور النمطية لكل ما هو غير أوروبي، خصوصاً الشرق الإسلامي.

وأتصور أن الفصل الذي خصصه فوكوياما لتحليل ثورات الربيع العربي يفضح هذه الرؤية، فقد ظهر في عنوان: «من 1848 إلى ربيع العرب» حيث قارن فيه من منطلق المشابهة التاريخية بين ثورات الدول الأوروبية وتحولها نحو الديموقراطية بعد الثورة الصناعية، وبين الربيع العربي، من أوجه عدة، أهمها: عدم وجود خبرة تاريخية بالممارسة الديموقراطية، وتشابه الطبقة الوسطى وقيادتها للربيع الأوروبي والعربي، على رغم ما يفصلهما من قرن ونصف! وكذلك تشابه دور القوى المحافظة وتوظيفها الدين في المجال العام ما مكّن الإسلام السياسي من اختطاف ثورات الربيع العربي، والقوى الدينية والقومية والجيوش من اختطاف ثورات 1848.

ويعترف فوكوياما أن الشعوب العربية لديها مميزات تدعم من فرص نجاحها في النضال الديموقراطي حيث توجد نماذج ديموقراطية ناجحة، ويلفت النظر دائماً إلى التشابه والاختلاف بين ظروف التحول الديموقراطي في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، وفي أميركا اللاتينية وشرق أوروبا أواخر القرن العشرين، وبين ما يجري في دول الربيع العربي.

وعلى رغم العرض المبهر الذي يقدمه فوكوياما حول التشابه بين ربيع أوروبا وربيع العرب، إلا أنه لا يصمد أمام النقاش الجاد، لأن الربيع العربي لم يكن مجرد ثورات ديموقراطية، حيث ارتبطت بالعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، أي أنها ثورات ذات طابع متعدد ومتكامل، يختلف عن مضامين ثورات أوروبا وأهدافها قبل 175 عاماً! وأتصور أن محاولة فوكوياما للمقارنة بين ربيع أوروبا والعرب تفتقر إلى المنطق وتجافي منطق التاريخ الذي لا يعيد نفسه، كما أن ما مرت به الدول الأوروبية ليس شرطاً أن تمر به الدول العربية أو الأفريقية، فضلاً عن اختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية بين الدول العربية في مطلع القرن الواحد والعشرين وبين أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، فدول الربيع العربي لم تنجز الثورة الصناعية، وربما لن تمر بها، كما أن هناك تفاوتاً هائلاً في التطور الاقتصادي والسياسي وطبيعة الدولة ودور القبيلة والطائفة في الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي. بعض هذه التطورات لمصلحة الدول العربية التي تظل في التحليل الأخير جزءاً من العالم المعاصر يستمتع بكل منجزات العلم والتكنولوجيا في المجالات كافة. وفي هذا السياق يجب ألا ننسى تأثيرات انتشار التعليم والصحة والاتصال والإعلام وانتشار شبكات التواصل وهي أمور لم تعرفها أوروبا قبل 175 سنة.

لكن مركزية الرؤية الأوروبية واعتبار التاريخ الأوروبي المسار الوحيد الذي لا بد من أن تتبعه البشرية في تطورها دفعاً فوكوياما إلى التشديد على أن ربيع أوروبا كان معقداً وفوضوياً أحياناً، ولم تظهر ثماره إلا بعد عشرات السنين، وأنه لا بد من وقت طويل وربما فوضوي حتى تترسخ ثقافة الديموقراطية في المنطقة العربية التي تفتقر إلى تقاليد ديموقراطية وأحزاب ليبرالية قوية. ولا شك في أن المنطقة العربية في حاجة إلى ترسيخ ثقافة الديموقراطية لأن الديموقراطية ليست مجرد انتخابات، لكن ذلك لا يعني بالضرورة انتظار عشرات السنين، لأن الديموقراطية ممارسة وعملية يمكن أن تنجح في سنوات أقل، إذا تمتعت الدولة بالقوة والقدرة على فرض القانون وتوافرت مؤسسات للرقابة الشعبية والمساءلة.

ومع ذلك يؤكد فوكوياما أنه لا يمكن توقع نتائج أو مسار الربيع العربي لكنه يتعامل معه كحقيقة ومعطى سيفتح الباب للتغيير، لكنه ينهي الفصل الذي خصصه لربيع العرب بأن الأساس الاجتماعي لقيام ديموقراطية مستقرة لم يكن موجوداً عام 1848 في أوروبا، وربما لا يكون موجوداً في كثير من أجزاء الشرق الأوسط اليوم.

من هنا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تصمد رؤية فوكوياما للربيع العربي، إذا نجحت تونس في التحول الديموقراطي وتجنبت سيناريوات مصر وسورية وليبيا، وهل ينتظر العرب أم يتحركون لصياغة تجربتهم الخاصة في التحول الديموقراطي والتي أرى أنها لن تحتاج بالضرورة إلى الفوضى والتضحيات وعشرات السنين نفسها التي مرت بها أوروبا، خصوصاً أن دول أميركا اللاتينية نجحت في التحول الديموقراطي بطرق مغايرة تماماً لما مرت به أوروبا، ولم تتكبد الخسائر نفسها.

* كاتب مصري