تنقّلت مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني من العمليات الفدائية إلى الحرب بالصواريخ، ومن الطعن بالسكاكين إلى العمليات التفجيرية، ومن خطف الطائرات إلى الدهس بالسيارات.
هكذا فإن ثقافة الكفاح المسلح، المتأسّسة على فكرة الصراع على الوجود، هي التي حكمت مسيرة العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من دون أي تمييز، على الأغلب، بين الدولة والمجتمع، أو بين الفكرة والمؤسسة والجماعة الصهيونية من جهة والمجتمع الذي تم جلبه أو انتاجه من جهة أخرى، علماً أن هذه ليــست مشكلة الفلسطينيين وحدهم.
بيد أن القصة لم تتوقف عند ذلك، إذ إن ثقافة العنف فاضت عند الفلسطينيين إذ طغت على حركتهم الوطنية، أي على شعاراتها وبناها، ما تمثل بعسكرتها، وحتى ان ذلك شمل تحديد نمط علاقاتها البينية، إن في اطار الفصائل المكونة لها، أو مع النظم الحاكمة في المجال الإقليمي (الأردن ولبنان وسورية)، مع كل التداعيات التي نجمت عن ذلك، والتي أثرت سلباً فيها وزادت من كلفتها وحدّت من دورها، وصرفتها عن القيام بالوظائف الأساسية التي يفترض انها قامت من اجلها.
اللافت أن معظم الفلسطينيين، في غمرة حماستهم للكفاح المسلح، لم يطرحوا الأسئلة المناسبة في وقتها المناسب. فهم لم يطرحوا سؤال الإمكانات والظروف العربية في البدايات، ولم يطرحوا سؤال الارتهانات والإنجازات والتوظيفات والتضحيات طوال مسيرة نصف قرن.
منذ البداية ما كان في إمكان عشرات أو مئات من الفلسطينيين إطلاق الكفاح المسلح من دون بيئة عربية مواتية، دعمته ومكنته وأمنت صعوده في المشهدين الفلسطيني والعربي. وما نقصده هنا ليس البيئة الشعبية بطبيعة الحال، وإنما الأنظمة الرسمية العربية القائمة آنذاك، فهي التي فتحت المجال لإقامة قواعد للفدائيين، إذ إن هذه لم تكن قواعد سرية، وهي التي أمنت متطلبات التسلح، والمال اللازم لتغطية النفقات. أي أن العمل الفدائي، او الكفاح المسلح، وبغض النظر عن بعده الفلسطيني، شكل في وقته حاجة للنظام العربي، في إطار المنافسات البينية، وكوسيلة لتعزيز الشرعية الشعبية، والمكانة الإقليمية، لا سيما على خلفية التداعيات الناجمة عن هزيمة حزيران (يونيو) 1967. في تلك الفترة، أيضاً، كان صعود حركات المقاومة يلبي حاجة لبعض الأنظمة للتخفيف من الدور المصري، والحد من تأثير زعامة الرئيس جمال عبد الناصر. هكذا فتحت المكاتب، والمعسكرات، والقواعد للفدائيين، وأغدقت الأموال على حركات المقاومة، لتمكينها من الاستمرار والاستقطاب، ما سهل عليها، وأمن لها، الصعود واحتلال مكانة مهمة على الصعيدين الشعبي والرسمي.
ليس القصد من ذلك التقليل من شأن العوامل الذاتية في صعود حركة التحرر الفلسطينية، وإنما تحديد الدور الذي لعبته البيئة العربية المحيطة في ذلك، لإدراك أنه من دون ذلك ما استطاع بضع عشرات، او مئات من الأفراد، القيام بما قاموا به، في أواسط الستينات، بجهودهم الخاصة.
هذا اولاً. وثانياً، فإن ذلك يبين أن الكفاح المسلح الفلسطيني لم ينطلق من المخيمات، كما يعتقد البعض، او بحسب الرواية الرائجة، إذ إن «الطلائع» التي وقفت وراء هذه المبادرة جاءت من الفلسطينيين الذين يعيشون في الخليج العربي. وبديهي أن ذلك لا يعني ان حركة التحرر الفلسطينية ما كانت لتظهر لولا التسهيل الرسمي العربي، وإنما التوضيح بأن ظهورها في هذه الحالة ربما كان اتخذ أشكالاً وتعبيرات مغايرة، أهمها انه سيكون أقل عسكرة، وأكثر تسيساً وأكثر تنظيماً، وأقل حضوراً، تبعاً لقدراتها الذاتية، وللشروط التي يمكن ان تعمل، أو تتطور، بها. أما القول إن هذه الحركة لم تنطلق من المخيمات، بدليل الطبقة القيادية المهيمنة فيها، فلا يعني ذلك الانتقاص من دور مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسورية. فهذه في الحقيقة هي التي شكلت على الدوام، ومنذ نصف قرن، الخزان والوقود للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، علماً ان هؤلاء اللاجئين هم الذين دفعوا الثمن باهظاً في مرات ثلاث، في النكبة، وفي صعود العمل الفدائي والمقاومة، ثم في التحول نحو التسوية والسلطة.
فالحديث إذاً يتعلق فقط بتفسير القصور السياسي، والتخلف التنظيمي للحركة الفلسطينية، التي ابتدأت منذ البداية بنقلة متقدمة جداً، وليس كنتيجة تطور لعمل تدريجي، فالكفاح المسلح لم ينشأ من حالة سياسية، وإنما من عمليات فدائية متفرقة، من البيان الأول الذي اذاعته حركة «فتح»، في وقت كان فيه معظم الفلسطينيين لا يعرفون شيئاً عن هذه الحركة، او ما الذي يحصل حقاً.
على أية حال فإن مسيرة الكفاح الفلسطيني المعاصر كانت انطلقت قبل نصف قرن، على أساس مشروع يرمي إلى تحرير فلسطين من الصهيونية، علماً أن الضفة وغزة لم تكونا تحت الاحتلال حينها.
هكذا، عدا المغزى الذي يكمن في هذا التفصيل، على أهميته البالغة، ثمة مفارقة، في هذه المسيرة الصعبة والمكلفة والطويلة، مفادها أن عوامل تأزّم الحالة الوطنية الفلسطينية يمكن احالتها إلى العاملين ذاتيهما اللذين شكّلا أهم علامات استمرارها. هذا ما يتمثل، أولاً، في النخبة السياسية السائدة، التي ظلت تعيد انتاج نفسها من الفصائل إلى المنظمة وصولاً إلى السلطة، على رغم كل التغيرات السياسية الحاصلة، وهي ليست تغيّرات عادية، أو ثانوية، أو عرضية. وثانياً، في فكرة الكفاح المسلح، التي هيمنت على ثقافة الفلسطينيين، وعلى بناهم، مع أن هذه التجربة الغنية والمتشعبة لم تثمر، أو لم تفض إلى تحقيق إنجازات ملموسة، بقدر التضحيات التي بذلت والأكلاف التي قدمت، هذا من دون ان نتحدث عن الفجوة بين الإمكانات والشعارات، أو عن الشبهات والثغرات والارتهانات التي حكمت هذه التجربة. وهل من دليل على ذلك اكثر من التحول نحو التشبّث بحوادث فردية، منعزلة، بعد ان ضاعت الفصائل وخبا دورها؟ |