التاريخ: تشرين الثاني ١٦, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
عدّاد تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا» - سامر فرنجية
على تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا»، يقف عدّاد «الرئيس الشهيد» الذي يقيس المسافة الزمنية التي تفصل الحاضر عن حدث ما، قد يكون تاريخ اغتيال الحريري أو إقرار محكمته أو بدء عملها أو عودة موظفيها من استراحة الغداء...، لم نعد ندري. والعدّاد لا يحدّد ما هو هذا الحدث المؤسس لعدّه. هذا أمر لا يعنيه، فهو مجرّد عدّاد يحصي الأيام، ويمكن أن يستمرّ في هذه المهمّة إلى الأبد، طالما هناك من يضيف شاشات لتستوعب أرقامه المتزايدة. فالعدّ لم يعد عكسياً كما تخيل بعضهم في يوم ما من شباط (فبراير) 2005، بل أصبح مفتوحاً على أفق غير محدّد، يؤرّخ زمان الجمود السياسي.

يمرّ المارة من تحت العدّاد غير آبهين به وبعدّه المتواصل، بالُهم مأخوذ بعدّاد الكهرباء وفاتورته المقبلة عندما ينتهي المياومون من عدّ أيام إضرابهم المفتوح. حتى أهل «المعدود» وخصومه لم يعودوا يبالون بهذا العدّاد الذي يقف وحيداً على تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا»، بعدما كان الأمر هذا مطلباً يملأ الساحات. غير أنّ هذا العدّاد يمثّل، في وحدته، وضع البلاد الجامد في حركتها العبثية. فجلسات مجلس النواب والمبادرات والاتهامات لم تنتج إلاّ إغلاقاً للطرقات وفراغاً في الرئاسة وتمديداً لمجلس النواب وعدّاً للأيام منذ آخر رئيس ومجلس دستوري. أمّا حركة «حزب الله» العابرة للحدود وحربه التنويرية ضد البرابرة، فباتت أيضاً بلا أفق، عدّادها دموي يحصي الفارق بين من يذهب إلى سورية ومن لم يعد منها. وحتى الجيش اللبناني قرّر الخروج من عزلته والمشاركة في هذا العدّ الجامد، من خلال معاركه المتنقّلة التي تنتهي دائماً بفرار المطلوبين وإحصاء قتلاه. وكما أنّ عدّاد «الرئيس الشهيد» يستمرّ بعدّه وإن كان لا أحد يبالي، فالبلاد تستمرّ في العدّ، وإن كانت مؤسّساتها السياسية مجمّدة.

تتزامن حالة الجمود المؤسّساتية مع تحوّلات بنيوية في تركيبة البلاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفي جوارها. فمن الطبيعة المتحوّلة للطوائف اللبنانية إلى حدود الكيان الحاضن لهذه المجموعات، وصولاً إلى التغيّرات الإقليمية، تتحوّل بنية النظام لتفرض تحدّيات عليه قد لا يحتملها. وفي وجه تلك الصعوبات، يمكن قراءة حالة الجمود هذه كقرار وقائي للحفاظ على بعض من الاستقرار في وجه المجهول. قد لا تستطيع مؤسسات الدولة منع تدخّل «حزب الله» وبعض المجموعات السلفية في الصراع السوري، مثلاً، غير أنّها تستطيع تنظيم المواكب ذهاباً وإياباً لضمان عدم احتكاك المقاتلين. بهذا المعنى، يبدو التجميد اعترافاً بعدم أهليّة النظام اللبناني أو قدرته على التأثير في مجرى الأمور، وهو قد يكون الثمن الضروري لعدم الانفجار السياسي.

يحقّ لناشطي المجتمع المدني الاعتراض على وضع كهذا، أو لممثلي القوى المسيحية التعبير عن سخطهم إزاء ما آلت إليه الأمور، غير أنّ الدائرة أصبحت مغلقة، والدوران فيها، كعدّاد تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا»، هو الخيار الوحيد.

غير أنّ هذا التجميد لمؤسسات الدولة ليس طارئاً جديداً على نظام الطائف، أو نظام ما بعد الحرب، مهما استنكر الجميع، بل قد يشكّل أحد أسس منطقه المؤسساتي. فيمكن اعتبار سياسة تجميد المؤسّسات وتفريغها من فعاليتها، بمعنى ما، المرادف للسياسات الاقتصادية القائمة على تثبيت سعر الصرف وتجميد دور الدولة في الاقتصاد وتفريغها من فعاليتها. ففي الحالتين، اعتُبِر الداخل اللبناني غير مؤهل لتحمّل مسؤولياته ووُضِع تحت رعاية مؤسّساتية. وإذا كان المصرف المركزي وقطاع المصارف قد أخذا على عاتقهما إدارة الاقتصاد، فالبحث جار اليوم عمّن سوف يأخذ على عاتقه إدارة الشقّ السياسي للبلاد. والمنطق ذاته ينطبق على الشقّ القانوني، حيث أخرِجت مسألة محكمة الحريري من السياق المؤسساتي اللبناني لمنع التلاعب السياسي بها. وفي الوقت الضائع هذا، تتحوّل الدولة إلى نوع من «مسؤول حي»، مهمّاتها الوحيدة تنظيم سياسات «الدِش» خلال كأس العالم لكرة القدم أو توزيع الإفادات للتلاميذ بالجملة.

سياسة الحد الأدنى هذه لا تنفي وجود شبكة مصالح تدعمها وتستفيد منها. فإذا كانت، مثلاً، التلفيقة الاقتصادية التي وُضِعت بعد الحرب أحد أسس الاستقرار النقدي الحالي، فقد شكّلت أيضاً واحدة من أكبر عمليات إعادة توزيع الثروات تجاه الطبقات الميسورة وتمركزها. وبالمعنى ذاته، فتجميد السياسة لا يخلو من محاولات الكثيرين الاستفادة من الوقت الضائع واستغلال ما تبقى من نفوذ في هذه المؤسسات، قبل الانفجار الكبير أو إعادة التفاوض على أسس النظام.

بيد أنّ تاريخ هذا النظام وفساده باتا الثمن الذي يجب دفعه للحفاظ على الفارق بين الاهتراء التدريجي والانفجار الهدّام. هكذا تحوّل «ابتزاز الطائف»، ليصبح: الفساد مقابل الموت البطيء، بعدما كان: الفساد مقابل استقرار قد يبعد شبح الحرب الأهلية. وهكذا بات عدّاد تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا» يحصي الأيام المتبقية لهذا الابتزاز، قبل أنّ تقضي حالة الاهتراء عليه وعلى شاشاته الكهربائية.

قد يكون هذا الكلام محبطاً بعض الشيء أو حتى تبريراً لواقع رديء، لا يزيد من رداءته إلاّ تصرّفات مسؤولي الحيّ الذين يستمرّون بـ «بهوراتهم» البلهاء، من مواكب طنانة إلى إغلاق طرقات وصولاً إلى صفعات وصفقات. لم يعد مطلوباً من تلك الطبقة إيجاد حل لأزمة تفوقها ولم تعد مجدية محاسبتها كونها باتت خارج الواقع.

لقد أصبحت الطبقة السياسية موضوع تسلية، مكانها في صفحات الفضائح، نقدها لا يفوق في جديّته جديّة النقد لإغلاق طريق أو لتلميح ذكوري. فالنظام اللبناني أظهر أنّه بات يعمل من دون فاعل يحرّكه، وهو يبطىء نفسه بنفسه لإطالة المسافة بينه وبين اهترائه النهائي. إنّه كعدّاد تقاطع شارعَي «فخر الدين» و«ميشال شيحا»، يعدّ الأيام حتى انتهاء آخر «واط» من الكهرباء.