التاريخ: تشرين الثاني ١٦, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
نحو دول ضعيفة وحدود واهية - عمر قدور
من العلامات القوية على تراجع موجة التغيير في المنطقة أن يتوجه النقاش إلى مدى ملاءمة الكيانات السياسية القائمة لسكانها، بعد أن كان منصباً على مدى صلاحية الأنظمة السياسية التي تسببت في اندلاع الثورات. النظام الإقليمي برمته، وآثاره السلبية المحتملة، أمران بقيا خارج النقاش المعمق. ومع أن الحدود ليست مقدسة، كما تقول هي نفسها عبر انزياحاتها التاريخية، فالنظر إلى تغييرها كخشبة خلاص ينطوي أولاً على اليأس من تغيير جذري للأنظمة، فيحيل الأخيرة على الأرجح ببنيتها الحالية لتصبح معضلة داخلية، إما ضمن الطائفة نفسها أو العرق ذاته. أي أننا، في حال تم التحاجز الجديد، سنكون أمام دورة متجددة من النظام القديم، غير أن آذاه لن يتسبب بحروب أهلية بين الطوائف أو الأعراق، بل بحروب داخلية ضمن كل طائفة أو عرق، إذا افترضنا عدم قدرة الكيانات الناشئة على افتعال حروب خارجية، أو حتى وجود أسباب حقيقية لحروب خارجية، ما يمنع أو يؤجل الصراع الداخلي على النحو الذي فعلته أنظمة الاستبداد الحالية.

ولئن كانت طلائع الانتفاضات العربية قد نادت بقيم الديمــــوقراطية والمـساواة، فإن الوقت والصراع الضاري الذي خاضته لم يسعفاها لتقديم أطروحات متكاملة بديلة عن نظام متكامل من الاستبداد، وقد كان واضحاً أن شخصنة الاستبداد تصرف النظر عن بنية الدولة الاستبدادية، حتى مع التركيز على الأيديولوجيات المولّدة للاستبداد والعنف.

لا تفترق عمّا سبق المقولات اليسارية، أو ما شابهها من مقولات ذات نزوع اجتماعي، من حيث المطالبة بعدالة توزيع الثروة، من دون التفكر الجاد في طبيعة الدولة الاحتكارية التي لا تسمح بنيتها بأي قدر من العدالة بقدر ما تولّد العنف. فدول المنطقة، مع التباين في الدرجة، تكاد تلتقي من حيث أنها تحتكر السياسة والاقتصاد وكل ما يتعلق بالفضاء العام، يزيد عليها بعض الأيديولوجيات بأن يقتحم الفضاء الشخصي، أيضاً مع تباين في الدرجة بين أيديولوجيا وأخرى.

سواءً تحت زعم الليبرالية أو الاقتصاد الموجَّه أو رأسمالية الدولة، يكاد يكون الحال نفسه حيث يكون الإمساك بالسلطة مصدراً لجميع الثروات والمكاسب الأخرى، لذا يكون الصراع عليها انقلابياً أو دموياً، ويعزّ منطق المشاركة والتداول قياساً إلى حجم الثروة. بخلاف التحليل الاقتصادي الكلاسيكي، نحن إزاء شرائح غير فاعلة اقتصادياً تخوض صراعها على السلطة بوصف الأخيرة المصدر الاحتكاري للاقتصاد والسلطة معاً، ولأنها كذلك ستمنع التغيير بكل ما تملك من وسائل، وسيتعذر عليها التغيير بدينامياتها الداخلية. لا مصادفة في أن نكون إزاء دول/أنظمة قوية وشعوب ضعيفة، بل لا يستقيم وفق المنطق الاحتكاري إلا أن تستقر المعادلة هكذا، ولا يستقيم وفق المنطق ذاته إلا أن تنقلب المعادلة من أجل السير على طريق التغيير، أي أن نصبح إزاء دول ضعيفة وشعوب قوية.

إذا كانت الثروة تاريخياً أحد المصادر الرئيسية للعنف، والبعض يراها المصدر الأساسي، ينبغي تحطيم الدولة عندما تصبح الإقطاعي الأوحد أو الرأسمالي الأوحد، لأن الدولة حينها تصبح في حد ذاتها مولّدة للعنف. التعبير التقني الدقيق هنا هو الدولة المركزية، بصرف النظر عن ادعاءاتها الوطنية أو القومية، وتحطيمها لا يعني بأي حال تقسيمها إلى إقطاعيات متنافسة أو متحاربة بغية السيطرة عليها، لا يعني إضعافها فحسب لمصلحة منطق تقاسم الغنيمة. لقد جُرّب الاحتمال الأخير في لبنان والعراق، وعلى رغم الاختلاف بين التجربتين لم يتوقف الصراع على الدولة بوصفها مصدراً للثروة، لأن الضعف السياسي لم يقترن بإضعاف أدوات الدولة إلى الحد الذي لا تبقى فيه بمثابة مغنم يستحق التضحية من أجله.

من الخفة ردّ الحجم الهائل في فساد الطبقة السياسية العربية إلى غياب المحاسبة وأنظمة المراقبة، فالعلة الكبرى هي في بنية الدولة التي تحتكر الرأسمال الواقعي والرمزي معاً، وتنتج آلياتها في شكل حتمي هرماً من الفساد وفائضاً من القوة للطغمة الحاكمة. ما لم يجرِ تبديد المركز، لمصلحة رسملة المجتمع، فإن أي بديل سيحظى بنفس البنية التي تجعله متحكماً أوحد. لذا من الضروري تفكيك المركزية الصارمة على كافة الأصعدة، من أعلى الهرم نزولاً وبالعكس، وذلك يعني إعادة الجزء الأكبر من الرأسمالين الواقعي والرمزي إلى أصحابه الحقيقيين، وإعادة الصراع والتنافس إلى موضعها الاجتماعي السلمي بدل أن يكون صراعاً دموياً على احتكار السلطة. لن يكون الأمر بمثابة اجتراح عبقري، لأن القاعدة الحقوقية التي تحمي المجتمع من جماعات وأفراد متوافرة في ثقافة العصر، ولأن الشكل المتقدم من تطبيق تلك القاعدة يتعين في ديموقراطيات تجاوزت فكرة الدولة المركزية الصارمة، سواءً أكانت دولة الصَهر القومي أو الدولة الوطنية.

لقد فوتت كيانات المنطقة، بالمعنى التاريخي، على نفسها الدولةَ القومية والدولة الوطنية، ومن الإجحاف أن تجد نفسها مضطرة إلى تكرار تجارب تم تجاوزها عالمياً، تحت زعم عدم جاهزيتها لدخول العصر. بل، قد تكون دولة «ما بعد الحداثة»، وهي ابنة تحطيم العديد من المركزيات الفكرية، الأقربَ مفاهيمياً إلى لمّ الشتات الحالي بعد فشل مشاريع «التحديث» في المنطقة. هذا يتطلب تغييراً شاملاً في منطقة مترابطة على مستويات عديدة، ويتطلب إضعاف كافة دول الإقليم لمصلحة شعوبها، أفراداً وجماعات، وسيكون من آثاره شبه الحتمية إضعاف الحدود الحالية في المنطقة لمصلحة حرية تنقل كبيرة جداً بين أطرافها. ما لا يخلو من دلالة على هذا الصعيد، الفشل الذريع للمنظومات الإقليمية طوال سبعة عقود تقريباً، إذ لا يمكن لأية منظومة تحقيق حد مقبول من التعاون والانفتاح مع وجود أنظمة احتكارية تعيق السيولة الاقتصادية والمجتمعية بين أعضائها.

مرة أخرى، الحدود ليست مقدسة، وإذا طال الصراع الحالي قد تنشأ كيانات وتندثر كيانات أخرى. العبرة ليست في إقامة نمط متجدد من التحاجز والاحتراب، العبرة هي في تحطيم النمط ذاته لئلا تدور شعوب المنطقة في حلقة مفرغة ومستقلة عن العصر. في كل الأحوال، لن نكون أمام حل سحري، الفارق فقط هو بين دفع ثمن باهظ من أجل طواغيت جدد أو دفعه للتخلص من إمكانية وجودهم.