التاريخ: تشرين الثاني ١١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
عن زمن الشِّح الفكري - ناصر زيدان
من المُتعارف عليه في علم الاجتماع ان هناك دورة زمنية كل حوالى ثلاثين او اربعين سنة، تغلُب عليها مقاربات ومفاهيم، تتعمَّم وتنتشر، ثُمّ تلتفُّ على ذاتها وتختنق، لتولد من رحم موتها دورةٌ أُخرى مُختلفة عنها، او مُكمِّلة لها، او انها مزيجٌ من كلّ ما سبق. ازهارُها تتذاكر من رحيق ما سبقها، او ربما من رائحة التوحُّش الذي سبق.
 
إذا ما استعرضنا عناوين المفاهيم الفكرية التي كانت تتمحور حولها الاحداث منذ الثورة الفرنسية للعام 1789، نرى بأن لكل دورة زمنية بالمفهوم السيسيوبوليتيكي خصائص ترسُم المفاصل الاساسية لملامح المرحلة. فالنصف الثاني من القرن الثامن عشر غلبت على الصراع فيه مفاهيم حقوق الانسان والحريات العامة والخروج من الرق والاستعباد، وشهد ثوراتٍ مُتميِزة في هذا المجال، لاسيما في الولايات المتحدة الاميركية واوروبا. وفي النصف الاول من القرن التاسع عشر كان التوجُّه الفكري يتمحور بالغالب على مقاربات تطوير مؤسسات الدول، لاسيما موضوع الانعتاق من التأثيرات الدينية على منظومات الحُكم، وقد اجَّجت الفتوحات الاستعمارية للدول الكبرى هذه العناوين بغرض ترسيخ احتلالاتها، مُدعيةً ان هدف الاستعمار رعاية التقدُّم والتطور عند البُلدان المُستعمَرة.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت رياح الصراع الطبقي تُطلُّ على الساحة الدولية، ونشأت مقاربات فكرية؛ منها يعتمدُ على اطلاق حريات اقتصاد السوق، لاسيما في المجال الصناعي، وكذلك تحرير النقد والفائدة، وتزعمها السويدي ويكسل كنت (1851-1926) ومن بعده البريطاني جون كينز

(1883 – 1946) ومنها مُقاربات مناهضة تماماً لهذا التوجُّه، تعتمد على الاقتصاد الاشتراكي الموجَّه، وتزعمها الالماني كارل ماركس (1818 - 1883) والبروسي فريدريش انغلز (1820 – 1885)، في ظُلِ تصارع القوى الكُبرى على الهيمنة على مُقدرات البشرية، وتوسيع دائرة نفوذها في مناطق مُتعددة من العالم.

وبدأ القرن العشرون مع مُبارزات امبراطورية، تمحورت حول ايديولوجيا التفوق العرقي، على وقع المعارضات الشعبية ضد الحُكام في الدول الكُبرى، وتنامي دور الطبقة العاملة من جراء الثورة الصناعية الرأسمالية التي شهدها العالم، فبعد ثورة شيكاغو في الولايات المُتحدة الاميركية، كانت الحرب العالمية الاولى، ثمَ الثورة البلشفية الكُبرى في روسيا، وبعد ذلك استنهض أدولف هتلر العصبيات العمالية في المانيا، واسس مقاربة فكرية تعتمد نفس مبادىء الفاشية التي ارساها موسيليني في ايطاليا، وانقسم العالم بين ايديولوجيتين؛ احداها تعتمد على القومية العرقية تزعمتها المانيا، وثانيها ليبرالي مُتنوع، تعتمدُ على مُخاصمة الفكر النازي.

وبعد هزيمة الفاشية في الحرب الكونية الثانية، تأسست الدورة الفكرية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين على انقسامٍ عمودي شَطَر العالم - الى حدٍ ما - شطرين، تعتمد مقاربة الشطر الاول على الفكر الليبرالي والرأسمالية المُتفلِّتة، بينما تستند مقاربة الشطر الثاني على الفكر الاشتراكي (الماركسي) مع بعض التمايُز لدول حاولت ان تعتمد مقاربة ثالثة؛ عنيتُ مجموعة دول عدم الانحياز.

أُختتمت دورة الصراع الرأسمالي – الاشتراكي في بداية العقد الاخير من القرن الماضي مع سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان يتزعَّم الجناح الشيوعي – الاشتراكي. وبدأت مع هذه النهاية دورة جديدة لم تنتهِ بعد.

الدورة السيسيوبوليتيكية الجديدة شهدت فوضى فكرية، وتخبُّطاً عقائدياً ودينياً مُنقطع النظير، فلا الولايات المُتحدة الاميركية استطاعت ارساء معالم ايديولوجية لهذه الحقبة، ولا غيرها من الدول نجح في ارساء معالم صراع جديدة يمكن لها ان تُحدِث شكلاً من اشكال التوازن السياسي والعسكري والعقائدي في العالم. فالحروب التي خاضتها واشنطن ضد "الارهاب" ادت الى فوضى، اكثر مما ادت الى استقرار، وهي لم تنجح في ارساء مقاربة الاحادية القطبية، كما ان غيرها لم ينجح في ارساء مُقاربة عالم مُتعدد القطب.

والتيارات الفكرية التي انطلقت مع هذه الدورة كانت ضعيفة الى حدودٍ بعيدة. فلا وجهة نظر المفكر الاميركي من اصل ياباني فرنسيس فوكوياما، حول نهاية التاريخ، كانت مُقنعة، ولا مفهوم صراع الحضارات الذي تحدث عنه هانتنغتون كان كافياً لإرساء دعائم مقاربة جديدة، ناهيك عن الفوضى العارمة التي شهدتها بعض الدول الاسلامية على خلفية التشدُّد العُنفي الذي لا يُشبه الاسلام في حقيقة الامر.

والشِّح الفكري الذي يتخبَّط فيه العالم اليوم، يترافق مع وثبة تكنولوجية كبيرة، اتاحت فُرصاً مُتعددة امام الباحثين بشكلٍ خاص، ولمعظم سكان الارض بشكلٍ عام. ولكن المُفاجأة كانت خلال تجربة عشرين عاماً؛ ان الاستفادة من النهوض التقني لم يَكُن على قدر الآمال. فالسطحية الفكرية كانت هي الغالبة، والعجلة في التحليل وفي التبصُّر كانت سِمة المرحلة، لاسيما بعد ظهور برامج التواصل المتطورة، من فيسبوك وتويتر وغيرهما. وغرق معظم القادة والمُفكرين والمُتابعين في شبرٍ من المياه، واصبحوا جزءاً من ماكينة التفكُك الفكري، وحتى اللغوي، وغدت العُجالة الفكرية وجبةٌ جاهزة عند مُعظم المُهتمين، وفي العُجالة لا يمكن بناء مُقاربات واضحة ومُتكاملة، وبعيدة الامد.

والفوضى الفكرية استولدت بعض المفاهيم الغريبة العجيبة، في السياسة وفي الاقتصاد وفي الدين، وفي التحالفات العسكرية، ارتكزت على سطحية عقائدية. تلك كانت عناوين حقبة الرئيس باراك اوباما في الولايات المُتحدة الاميركية، وكذا الامر عند عدد من الدول الكُبرى، بما فيها المارد الصيني الذي يسير وراء غزارة الانتاج الصناعي والزراعي من دون أُفق عقائدية او فكرية واضحة.

امَّا الشوشرة الايمانية، فقد خلقت اضطراباً في البلدان الاسلامية، من خلال استحضار نمطية بدائية مُتعصبة وقاسية، لاتتلاءم مع تعاليم الدين الحنيف وسماحتهِ، وهي تُعبِرُ عن خللٍ وقصورٍ عند القيميِّن على السياسة والارشاد في شِعاب اراضي المُسلمين المُترامية.

لقد غلبت على العلاقات بين البلدان الاسلامية في الحقبة الماضية سمةُ التعاون بالحد الادنى، من خلال مُنظمة المؤتمر الاسلامي وغيرها، ولم تصل الخلافات والتبايُنات الى الحِدّةِ التي نشهدها اليوم، حيثُ مآسي كربلاء التي يستنكرُها كل المُسلمين، وخصوصاً الشيعة والسُّنة، كأنها حدثت بالامس، او كأنها حصلت بين المكونات الاسلامية الحالية، هذه المُكونات تعايشت على مدى ما يُقارب الالف واربعمئة عام من دون حروبٍ ولا عداوة ولا إقتتال، من النوع الذي نشهده حالياً في باكستان وافغانستان وايران واليمن والعراق وسوريا.

ان شروط استعادة الانبعاث الفكري الى الاروقة الدولية، والى الساحة الاسلامية على وجه الخصوص، تتطلب انتاج رؤى عابرة للحدود وللقارات وللأديان، تخدمُ الانسانية جمعاء، وتُصوِّبُ مسارها، وتوسِّع أُفق الصراع، وتُعمِّق مضامينه.

استاذ في الجامعة اللبنانية