التاريخ: تشرين الثاني ١٠, ٢٠١٤
المصدر: جريدة القدس العربي
المفكر اللبناني جورج قرم: لا حلَ لأوضاع العرب إلا بميثاق علماني يمنع توظيف الدين في السياسة
تونس – «القدس العربي»- حسن سلمان: يرى المفكر اللبناني جورج قرم أن العالم العربي بات أسير أجواء دينية ومذهبية ثقيلة الوطأة بين صحوة إسلامية على النهج السعودي- الوهابي وثورة دينية إيرانية شيعية الطابع، ويرفض في المقابل تحميل الأنظمة العربية مسؤولية ظهور بعض الحركات الدينية المتطرفة كـ»داعش» و»أنصار الشريعة»، كما يرى أن مسؤولية انحراف الثورات العربية تقع بالدرجة الأولى على التحالف بين الأنظمة الملكية العربية والدول الغربية.

ويؤكد قرم في حواره مع «القدس العربي» أن ما نشهده اليوم من التشدد والغلو والإدعاء بمراقبة الإنسان المسلم من قبل الفقهاء في كل تفاصيل تفكيره وتصرفاته يدل على نشأة دين جديد ينخرط في ديناميات جيوسياسية جديدة أتتنا من البروتستنتينية الراديكالية الأمريكية وكنائسها الجديدة التي تنتشر في العالم بسرعة بفضل الأموال الطائلة التي تتمتع بها على حساب المسيحية التقليدية المبنية على المحبة والسلام. هنا نص الحوار: 

○ بخلاف عدد كبير من المفكرين تميل في كتابك الأخير «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» إلى الابتعاد عن القراءة الغربية للصراعات العربية الحالية في إطار «مذهبي»، وتركز في المقابل على المواضيع الاقتصادية (الفساد، العدالة الاجتماعية، الاقتصاد الريعي). والسؤال: كيف تفسرون تحوّل ظاهرة «الربيع العربي» التي رفعت في البداية شعارات من قبيل «الحرية والديمقراطية والمساواة» إلى صراع اتخذ طابعا طائفيا في عدد من الدول؟

• أنا لا استعمل عبارة «الربيع العربي» بل عبارة «الانتفاضات الشعبية» إذ إن مفهوم الربيع مستورد من قاموس الإعلام الأوروبي – الأمريكي الذي أطلقه على دول أوروبا الوسطى التي كانت سابقاً جزءاً من المجموعة السوفييتية. أما عبارة انتفاضة فهي تدل على ما حصل فعلاً في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، أي من سلطنة عُمان إلى موريتانيا خلال الأشهر الأولى من عام 2011. وقد كانت فعلاً موجة ثورية رائعة اشترك فيها كل العرب، رجالاً ونساءً، من كل الفئات العمرية والاجتماعية التي أصبحت تطالب ليس فقط بالحرية والديمقراطية إنما بتأمين الكرامة الاجتماعية، أي إيجاد فرص العمل اللائقة ومكافحة الفساد المستشري في كل أنظمة الحكم والتوزيع العادل للمداخيل.

وسرعان ما نُظمت الثورة المضادة من دوائر الحلف الأطلسي وتحالفه مع الأنظمة العربية الموالية له بدعم حركات الإسلام السياسي وهي جميعها معادية للحرية الشخصية للمواطنين وتتمتع بنفوذ واسع بفضل شبكات المال النفطي، وذلك منذ عقود وبشكل خاص منذ اشتداد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا في أواخر السبعينيات، إذ تمّ في حينه تدريب عشرات الآلاف من الشبان العرب، عسكرياً وعقائدياً دينياً، ليذهبوا إلى أفغانستان لقتال الجيش السوفييتي المحتل لهذا البلد، بالرغم من انّ ليس لنا معه منذ قرون أي نوع من العلاقة التجارية أو الثقافية أو الإنسانية. بل كان هذا مجرد خدمة لمصالح المعسكر الغربي ضد المعسكر السوفييتي. ومن ثم انفجرت الثورة الشعبية الكبيرة في إيران وقد تم تطييفها دينيا ومذهبيا وذلك بسبب استيلاء بعض المراجع الدينية في هذا البلد على سير الثورة. والجدير بالملاحظة هنا ان هذه الثورة أصبحت تأخذ طابعا معاديا للولايات المتحدة ومؤيدا للقضية الفلسطينية.

من جراء كل هذه التطورات أصبح الوطن العربي أسير أجواء دينية ومذهبية ثقيلة الوطأة بين صحوة إسلامية على النهج السعودي- الوهابي وثورة دينية إيرانية شيعية الطابع. هذا بالإضافة إلى توسيع حجم النفوذ الصهيوني في المنطقة سواء مباشرة أو عبر علاقتها الاستراتيجية بالسياسات الاستعمارية الغربية تجاه المنطقة العربية.
 
الجمهوريات مارست أنواعا من القمع السياسي 

○ في السياق ذاته، هل توافقون على ربط ظهور بعض الحركات المتشددة (داعش، جبهة النصرة، أنصار الشريعية وغيرها) بغياب مناخ الحرية والتعددية السياسية خلال عقود من حكم الأنظمة العربية الديكتاتورية؟ وهل تعتقدون بالمقابل أن هذه الأنظمة «متواطئة» بطريقة أو بأخرى في إثارة النعرات الطائفية والإثنية للحفاظ على نفسها؟

• انتشرت سردية مسؤولية الأنظمة العربية الجمهورية المعتمدة الايديولوجية العروبية عن نشأة أنواع مختلفة من الإسلام السياسي بشكله المعتدل أو المتشدد. مع الإشارة إلى ان هذا الاتجاه العقيدي أدى بدوره إلى نشوء حركات العنف التي رفعت راية الدين الإسلامي بأوجه لا تتناسب وطابع الوسطية ورفض الغلو الديني في الديانة الإسلامية إجمالا. فالدين الإسلامي يتصف بالرحمة والاعتدال وليس بالمغالاة والعنف.

صحيح ان الجمهوريات مارست أنواعا مختلفة ومتفاوتة من القمع السياسي حسب ظروفها وأيضا حسب تعرضها إلى عداء الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لكن لا بدّ من الاقرار بأن القمع قد نال من حرية الفئات المتعلمة والميسورة نسبيا صاحبة الآراء والمعتقدات السياسية أكثر مما نال من أبناء الشعب العاديين.

وفي مراحل معينة من تاريخ تلك الأنظمة استفادت الفئات الشعبية الفقيرة من سياسات تنموية وفرت العديد من المكاسب لها، مثل الإصلاح الزراعي وتحقيق التعليم المجاني للجميع، والتأمينات الاجتماعية، وأصبحت بالتالي هذه الفئات الشعبية العامود الرئيسي لهذه الأنظمة.

ثم يجب أن لا ننسى أن الأنظمة نفسها عندما اضطهدت بعض الفئات المتجذرة شعبيا والمنادية بالإسلام فقد سجنت واضطهدت أيضاً العديد من من الشيوعيين والاشتراكيين، ربما بالمقدار نفسه الذي فعلته ذلك مع أعضاء الحركات الإسلامية. لذلك أرى تحميل تلك الأنظمة مسؤولية ظهور حركات العنف الرافع راية الدين في مجتمعاتنا لا يمت إلى الموضوعية بصلة، بل يهدف إلى تغطية ما كانت تقوم به بعض الأنظمة الملكية ـ التي لا تقل اضطهادا وقمعاً على أي نوع من المعارضة ـ في مجال إنشاء حركات التشدد الإسلامي لمحاربة تيارات القومية العربية التقدمية التي كانت تعاديها الدول الغربية.
 
مسؤولية المثقف 

○ لماذا تصرون على تحميل المثقفين العرب كامل المسؤولية عن تحول الثورات إلى فتن دينية ومذهبية؟ ألم يكن أغلب هؤلاء واقعون في ما مضى بين سندان الأنظمة ومطرقة المتشددين؟ أو ربما وقع بعضهم ضحية خطاب إعلامي (داخلي أو خارجي) مضلل، فانبرى للدفاع عن أنظمة لطالما عارضها في مقابل مد «أصولي» قد يأتي على الأخضر واليابس، ما رأيكم بهذا الطرح؟

• انا لا اتهم بتاتا المثقفين عن تحول الثورات الأخيرة إلى فتن دينية ومذهبية بل مأخذي على بعض المثقفين أنهم انخرطوا بقوة في التيارات العقائدية العربية المتعاكسة والمتضادة، مما ساهم في خلق مناخ غير صحي يعظّم التناقضات التي فرضها كل من الاستعمار الغربي وسياسات المحاور العربية الهدّامة.

فأنا أرى ان مسؤولية المثقف هي ليست الدخول في لعبة السياسات المحلية والإقليمية والدولية اليومية، بل هي في بناء وزيادة معارف الأمة وذلك ضمن إطار نظام قيمي متجانس ونظام إدراكي لمجريات العالم ووضع العرب فيه، وعبر تطوير استقلال فلسفي وسياسي عن الإشكاليات التي أتتنا ـ وما تزال تأتينا ـ من دوائر الاستشراق الغربية وهي تجلب العديد من القدرات الفكرية العربية التي تنخرط في تبني مقولاتها ومفاهيمها واشكالياتها بسهولة.

بالإضافة إلى ذلك لا ننسى كيف ان العديد من المثقفين المحللين لمجريات الأمور بشكل شبه يومي قد غيروا مواقفهم تغييرا جذريا في المعارك الايديولوجية الضخمة التي عصفت بالوطن العربي على إثر الحرب الباردة. فكم من القوميين الاشتراكيين قد انقلبوا محافظين جددا يستهويهم توظيف الدين في الحياة السياسية أو الهويات الإثنية أو المذهبية الفرعية، أو يدورون في فلك كبار الأثرياء العرب الجدد الذين راكموا ثروات طائلة عبر تقربّهم من الحكام العرب وبشكل خاص في الدول المصدّرة للنفط.

وعلى كل حال فإن مسؤولية انحراف الثورات العربية تقع بالدرجة الأولى على التحالف نفسه الذي كان قد تكوّن في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لصدّ ثورات الشعوب العربية العارمة المطالبة بالتخلص من الاستعمار ومخلفاته في المنطقة وتحقيق حلم الوحدة العربية. وكان هذا التحالف يربط بعض الأنظمة العربية – ومعظمها من الملكيات أو الإمارات ـ بالدول الغربية رغم تأييد الأخيرة الأعمى للاستيطان الإسرائيلي في فلسطين.
 
الإسلام السياسي والقومية العربية 

○ تؤكدون في إحدى مقالاتكم أن النموذج الإسلامي التركي غير قابل للتطبيق في العالم العربي، وتشيرون في موضع آخر إلى تمويل «دول نفطية» لجهود إقصاء الخطاب العلماني اليساري، والذي أدى لاحقا إلى صعود حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في بعض الدول العربية، والسؤال: أي مستقبل للأقليات الإثنية والدينية في ظل عالم عربي يزداد تطرفا وسط دعوات تطالب بإعادة مسيحيي الشرق إلى أوروبا (موطنهم الأصلي أو بلاد الكفار كما يرى المتطرفون)؟

• منطقتنا العربية والشرق أوسطية أصبحت تفقد تماسكها المجتمعي منذ تدخل الدول الاستعمارية الأوروبية وروسيا القيصرية في شؤون السلطنة العثمانية، وذلك بحجة حماية الأقليات غير المسلمة وإقامة المساواة بين المسلمين وغير المسلمين.

وقد بدأت المشاكل في مطلع القرن التاسع عشر مع إقامة نواة دولة يونانية على جزء من الأراضي التاريخية للدولة اليونانية القديمة، ثم بدأت فرنسا وانكلترا بوعد الأرمن بدولة مستقلة وكذلك بدأ التنافس الاستعماري الفرنسي البريطاني ينعكس على العلاقات التاريخية العميقة بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1840.

وقد سعت هاتان الدولتان إلى نشوء نواة لدولة درزية ودولة مارونية، كما بدأ التفكير في حينه في إقامة دولة لليهود في فلسطين لتثبيت النفوذ الاستعماري البريطاني، وذلك قبل أكثر من نصف قرن من تأسيس الحركة الصهيونية. وهذا ما ادّى إلى انتشار العداء والمجازر خلال الحرب العالمية الأولى ضدّ الأقليات، وبشكل خاص الأرمن واليونانيين والأكراد والأشوريين، على يد الجيش العثماني بقيادة ضباط «تركيا الفتاة» الذين أصبحوا معتنقين نموذج تحويل السلطنة إلى دولة قومية حديثة متجانسة عرقياً، وبالتالي بدأوا يطردون الأقليات ويهجرّونها قسراً لمنع الدول الاستعمارية الأوروبية من تفكيك أراضي السلطنة، خاصة في قلبها أي منطقة الأناضول.

ولهذا فإن هذا التهجير القسري والمجازر التي حصلت خلال الحرب العالمية الأولى ومن بعدها في الأناضول تتحملها أيضا إلى حد كبير الدول الأوروبية الكبرى. هذا مع العلم بأن انهيار الامبراطوريات المتعددة الأعراق والأديان والثقافات يؤدي في معظم الأحيان إلى مثل هذه الأحداث الأليمة ولذلك فإن قضية الأقليات تُنشأ على أثر مثل هذا الانهيار وإقامة دول جديدة تخلف الامبراطورية وتتوق إلى إنجاز القدر الأكبر من تجانس السكان.

هذا فحوى الموضوع وبطبيعة الحال فإن صعود حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي قد نزع بالتدريج صفة رئيسية من ايديولوجيا القومية العربية الحديثة المنفتحة والرافضة للتمييز بين المواطنين العرب على أساس أصلهم العرقي أو الديني أو المذهبي. فقد تمسكت تلك الحركات وما تزال بنظام أهل الذمة ودفع الجزية ومنع أي مواطن عربي غير مسلم من أن يستلم وظائف مهمة في الدولة ناهيك عن إمكانية وصول عربي مسيحي أو درزي إلى سدة رئاسة الدولة أو الحكومة فيها، باستثناء لبنان حيث ان صلاحية رئيس الجمهورية المسيحي الماروني تمّ تقليصها إلى أبعد الحدود لصالح رئيس الوزارة المسلم السني ورئيس المجلس النيابي الشيعي.

○ أعود لسؤال طرحتموه في مقال سابق: من المسؤول عن ضياع العرب بين العروبة والإسلام: الغرب، دعاة القومية، التيارات المتطرفة، أم جميعهم معا؟

• المسؤول عن تعدد حالات الحروب الأهلية العربية، ضمن القطر الواحد أو بين قطرين عربيين أو أكثر، هو غياب نظام قيم ونظام إدراكي لمجريات العالم الحديث ووضع العرب فيه بعد سبات عميق دام سبعة قرون، أي نظام يؤمّن الانسجام والتعاضد والهدف المشترك الواحد بين كل مكونات الأمة العربية ضمن إطار من الاستقلال الفكري والفلسفي بالنسبة إلى إشكاليات تاريخ أوروبا ومدارسها الفلسفية وعلومها الاستشراقية التي هي جزء من علمها الانثروبولوجي المركّز ذاتيا والذي أثّر كثيرا على عشرات الآلاف من الطلاب العرب الذين درسوا في الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة وتم اختطاف عقولهم.

وهذا وضع عانى منه العديد من المجموعات القومية الكبرى مثل الروس والصينيين الذين انقسموا أيضا فيما بينهم بين أنصار الحداثة وأنصار الأصالة، وهي إشكالية مستوردة تماما من الفلسفة الألمانية وقد أدّت إلى حروب أهلية ليس فقط في روسيا والصين، وانما أيضا في أمريكا اللاتينية وفي كوريا وفي فيتنام على سبيل المثال. وفي كل هذه الحالات تشهد تدخلا سافرا من الدول الأوروبية والولايات المتحدة يأخذ في كثير من الأحيان طابعاً عسكرياً فجاً.

ونعاني نحن من هذا الوضع منذ ان اتجهت بعض الدول العربية لمساعدة الولايات المتحدة في حربها ضد الاتحاد السوفييتي عبر تدعيم انتشار حركات أصولية تعمل تحت راية الدين الإسلامي وتحارب القومية العربية لأن ايديولوجيتها أممية الطابع تهدف إلى جمع كل الشعوب الإسلامية في قالب سياسي واحد ولذلك فإن الصدام بين العروبة والإسلام ضمن تناقضات الحرب الباردة كان لا بد من ان يؤدي إلى انهيار مقومات المجتمعات العربية خاصة وان جزءاً كبيراً من أموال النفط العربي استعمل لتدعيم حركات الإسلام السياسي بكل تلاوينها.
 
أجواء الفتنة الكبرى
 
○ اقترحتم قبل ست سنوات «ميثاقا علمانيا» لمواجهة الصعود الكبير للحركات الأصولية، واليوم تدعون لاتحاد جمهوريي العالم، فيما يطالب آخرون بإعادة النظر في الإصلاح الديني الذي تسبب فشله في تصدّر المتطرفين للمشهد السياسي والاجتماعي و»الفكري» في العالم العربي، والسؤال هو: أين يكمن «الحل» ضمن هذا الواقع العربي المتخبط؟ وهل نحتاج لقرن كامل لخلق واقع جديد أكثر حرية وأوفر ديمقراطية وأمنا، كما في حالة الثورة الفرنسية (وفق ما تؤكدون في أحد حوارتكم)؟

• عندما أرى كيف ان انتشار الإسلام السياسي على النمط الإيراني أو نمط الصحوة الإسلامية قد أدى إلى خراب العلاقات بين هذين المذهبين وأعادنا إلى أجواء «الفتنة الكبرى» بين معاوية والخليفة علي، وكأن هذه الأحداث الجسيمة قد حصلت منذ مدة قريبة وليس منذ ثلاثة عشر قرناً، يزيدني هذا الوضع قناعةً بأن لا حلَ لأوضاع العرب المأساوية إلا بتحييد الدين في أمور السياسة ونبذ توظيفه بهذا الشكل السافر في القضايا الدنيوية العديدة (الأطماع الشخصية في السلطة، الحصول والسيطرة على ثروات الشعوب المادية، الاندراج في خلافات الغير بحثاً عن الدعم الخارجي، الخ..).

هذه القضايا هي التي تكون مصدر الحروب والفتن لكنها تختبئ بشكل بشع وراء الادعاء بالدفاع عن الدين أو المذهب أو العرق، لذلك ما أزال أدعو إلى ميثاق علماني متأقلم مع الحالة العربية حيث اعتبر ان حرية الاجتهاد والتعامل مع النص المقدس هي أم كل الحريات ولا يمكن بالتالي إقامة حرية الفكر والمعتقد والحرية الفنية والأدبية، وهي أساس حكم الشعب في أموره، دون تبني ميثاق يمنع منعاً باتاً توظيف الدين في أمور الحكم والسياسة.

هذا مع التذكير بأن عند العرب مخزون ضخم من رؤى إصلاحية دينية ومن سعة الاجتهادات في النص القرآني، كما في بعض أوجه الشريعة الإسلامية وهي جميعها التي أعطت للديانة الإسلامية طابع الرحمة والاعتدال ورفض الغلو الديني. وهي أيضاً القيم التي أثرت عبر الأندلس على تطور أوروبا بشكل ايجابي. كما ازدهرت الفلسفة العربية الإسلامية على مدى القرون الأولى.

أما اليوم فما نشهده من التشدد والغلو والادعاء بمراقبة الإنسان المسلم من قبل الفقهاء في كل تفاصيل تفكيره وتصرفاته وعاداته فهو يدل على نشأة دين جديد ينخرط في ديناميات جيوسياسية جديدة أتتنا من البروتستانتية الراديكالية الأمريكية وكنائسها الجديدة التي تنتشر في العالم بسرعة بفضل الأموال الطائلة التي تتمتع بها على حساب المسيحية التقليدية المبنية على المحبة والسلام. وقد سميت هذه الظاهرة بعودة الدين لأغراض محض سياسية وسيطرة تحالف قوى رجعية متمحورة حول المحافظين الجدد في كل من الولايات المتحدة وأوروبا وهي التي تدير حركة العولمة الاقتصادية والمالية المدمرة للعديد من المجتمعات في العالم من حيث أنها تفكك البنى الاجتماعية وتركز الثروات المادية الطفيلية الطابع في أياد قليلة في كل أنحاء العالم وهذه الظاهرة وصفتها بإسهاب في بعض مؤلَفاتي. كما وصفت مراراً وتكراراً مساوئ الاقتصاد الريعي العربي الذي أدّى إلى تركّز هائل لثروات مالية في أيد قليلة وحال دون تطوير العلم والتكنولوجيات الحديثة في مجتمعاتنا العربية ودون توفير فرص العمل اللائقة لجيل الشباب العربي الذي أصبح ينخرط بسهولة في شبكات العنف المدمرة.