عند نشأة دولة "لبنان الكبير" في 1920، ولعقود تالية على تلك النشأة، راح قطاع عريض من اللبنانيّين يتخوّف من العواطف السوريّة الوحدويّة لبعض مناطق الأطراف اللبنانيّة. وكانت طرابلس وعكّار والضنّيّة وعرسال من الأطراف المذكورة التي يصرّ كثيرون من السوريّين، على اختلاف ولاءاتهم، على "استعادتها" إلى سوريّا. وعلى رغم تلك العواطف، وهي أحياناً منسجمة وأحياناً متضاربة، لم يحصل شيء من هذا القبيل. فحتّى إبّان قيام "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة"، المصريّة – السوريّة (1958 – 1961)، في ظلّ المعبود جمال عبد الناصر، بقيت تلك الأطراف جزءاً من لبنان. لا بل امتثل نظام الوصاية الأسديّ نفسه لهذا الواقع المرعيّ دوليّاً، وإن مضى يحكم لبنان فعليّاً، ممسكاً لسنوات مديدة بسياستيه الداخليّة والخارجيّة ومصادراً حرّيّاته.
الآن نشهد وضعاً معقّداً ومركّباً بالغ الاختلاف. فالعواطف الأكثريّة لسكّان تلك المناطق تجمع بين الرغبة في البقاء بلبنان، والانشداد إلى مركزه البيروتيّ، وبين الانخراط في الحرب السوريّة تيمّناً بما بدأه حزب الله وردّاً عليه في الوقت نفسه. وغنيّ عن القول إنّ في هذا الشعور تناقضاً لا يملك لبنان الحاليّ، الضعيف والمهلهل، أيّة قدرة على تصويبه... ومَن شاء التأريخ لعدم القدرة هذه لن يفوته الرجوع إلى المحطّات التأسيسيّة في تاريخ المقاومات المتجاوزة للدولة، ابتداء بأواخر الستينات مع المقاومة الفلسطينيّة ثمّ تتويجاً بمقاومة حزب الله، وهي كلّها اعتبرت الحدود الوطنيّة لزوم ما لا يلزم. على أيّة حال، فالحرب السوريّة تبدو الآن أقدر على جذب المناطق من لبنان ومن سوريّا سواء بسواء. وفي المعنى هذا، يصغر لبنان وتتصدّع سوريّا بينما تكبر الحرب السوريّة وتتعاظم وتضمّ إليها أطرافاً جديدة. فالنقاش اختلف كلّيّاً عمّا كانه مع تشكّل الكيانين الوطنيّين اللبنانيّ والسوريّ. ذاك أنّ مراكز البلدان باتت عاجزة عن أن تحتفظ بأرضها، أو أن تطمع بأراضي سواها، فيما باتت الحروب وحدها ما يمتلك هاتين الخاصيّتين. هكذا كفّ الافتراض القديم من أنّ بلداً قد يقوى ويكبر فيما البلد الآخر يضعف ويهزل. ذاك أنّ سوريّا التي تضمّ إليها الأطراف اللبنانيّة راهناً هي البلد الذي ينكمش ويتفتّت دويلاتٍ وإمارات ومناطق نفوذ شتّى.
يكفي النظر إلى ما حلّ، قبل أيّام، في ضاحية باب التبّانة الطرابلسيّة، للتأكّد من هذه الحقيقة المُرّة. ففعلاً صارت طرابلس أخت دمشق وحلب وحمص وحماة، لا في القوميّة ولا في الوطنيّة ولا في غير ذلك، بل في أنّ الحرب والموت هما... الوحدة!
|