نجاح «داعش» في إزالة الخط الحدودي ومعابره بين سورية والعراق وإعلان دولة «الخلافة الاسلامية»، وقبله إعلان بعض الزعماء الكرد عن رغبتهم بإقامة دولة قومية مستقلة في شمال العراق.. وبينهما ما تشي به مخلفات الصراع السياسي والمذهبي المحتدم في غير بلد عربي من مشاريع للتقسيم، هي مستجدات تفسر ارتفاع حرارة الحديث والتداول في خرائط جديدة للمنطقة.
الحديث عن إعادة رسم خرائط المنطقة قديم قدم خرائط سايكس – بيكو التي مكنت الاستعمارين الفرنسي والبريطاني من تقاسم تركة الرجل التركي المريض عبر كيانات اصطنعت، ربما عشوائياً وربما وفق مبدأ فرق تسد، لكنها لا تزال مستمرة، كدول وأوطان، حتى يومنا هذا، وهو حديث يتجدد مع كل حرب تنشب أو أزمة مستعصية تضرب بلدان المنطقة، ومع تنامي حضور قوى قومية أو دينية ترفض الاعتراف بالواقع القائم وتدعو لتغييره وفق منظورها الايديولوجي.
لكن، ثمة تعقيدات وصعوبات تقف أمام تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة بالمقارنة مع الظروف التي رافقت إعلان سايكس- بيكو، منها زوال صورة الاستعمار القديم بما يعني انعدام الفرص التي يمنحها الاحتلال العسكري المباشر لفرض الكيانات وضمان استمرارها، ثم أثر الثورة المعلوماتية التي وضعت أدق التفاصيل العالمية تحت أضواء كاشفة في ظل تنامي دور الأمم المتحدة كداعم موضوعي لاستقرار الكيانات السياسية المنتمية اليها، وإذا أضفنا انحسار الشهية التوسعية الاسرائيلية لصالح إستراتيجية الهيمنة عبر التفوق التنموي، سياسياً واقتصادياً، أمام فشل تنموي لكيانات عربية تبدو هزيلة ومنهكة، إن بسبب صراعاتها البينية أو جراء استبداد الانظمة وفسادها، وإذا أضفنا أخيراً، وهو الأهم، أن السياسة الأميركية، بصفتها صاحبة الكلمة الحاسمة إلى الآن، لا تزال تفضل استمرار الكيانات السياسية القائمة طالما تحقق لها مصالحها الاستراتيجية في نقاطها الثلاث: استمرار السيطرة على منابع النفط وممراته، وضمان أمن إسرائيل وتطويع البيئة المحيطة بها، ثم منع نشوء دولة عربية قوية وقادرة على الدفاع عن حقوقها ومصالحها الخاصة، يمكن أن نقف عند أهم العوامل التي ترجح استمرار سياسة الحفاظ على خرائط المنطقة، وتجنب مغامرة المساس بها. ولا يغيّر الحقيقة السابقة بل يؤكدها التذكير بمشروع المحافظين الجدد الداعي لتفكيك الشرق الأوسط وإعادة تركيبه، حيث لم يجد هذا المشروع طريقه الى التنفيذ في المرحلة التي تفردت فيها الادارة الأميركية بقيادة العالم، فكيف الحال وقد بدأت دول أوروبية وآسيوية تنازعها على النفوذ وتحجّم هامش مناورتها في إدارة الصراع العالمي وتقرير نتائجه، ويؤكدها أيضاً إصرار واشنطن على نهج الحفاظ على الكيانات القائمة بدليل تمرير فرص عديدة توافرت لتغيير الخرائط بعد أزمات وصراعات أهلية شهدتها بلدان عربية، وبعد حروب قامت في ما بينها أو مع إسرائيل، وهنا لا يغيب عن البال مثلاً، الإصرار الدولي على وحدة لبنان إبان الحرب الأهلية التي عصفت به ورفض الاعتراف بمشاريع التقسيم التي فرضت على أرض الواقع، وأيضاً وحدة الموقف الدولي من حرب الخليج الثانية لردع نظام بغداد ومنعه من ضم الكويت، والأهم لضبط مناطق نفوذ الشيعة العرب في الجنوب والأكراد في الشمال كي لا تخرج عن نطاق الدولة العراقية، وأيضاً الاصرار اليوم على وحدة الأراضي السورية برغم الشروخ والتقسيمات التي فرضها الصراع الدموي المحتدم على الأرض بما في ذلك الحذر من إقامة منطقة عازلة قد تكون مقدمة لتوسع النفوذ التركي وتمكينه من قضم جزء جديد من الأرض السورية متوسلاً حالة ضعف الداخل وتفككه، ثم وضوح الحماس الدولي لإفشال أي مشروع لإقامة دولة مشرقية للمسلمين السنّة وأبرز تجلياته تشكيل تحالف عسكري لضرب تنظيم «داعش» وما يسمّى دولة الخلافة الاسلامية، فضلاً عن الجهود العالمية المتعددة الوجوه لمحاصرة السياسة التوسعية الايرانية ومحاولتها استثمار البعد المذهبي لتعزيز حضورها ونفوذها، ولا ننسى وضوح التوافق العالمي والإقليمي ضد مطلب الدولة الكردية القومية في شمال العراق، على قاعدة التحسب من أن يمهد ذلك لنشوء دولة كردية قوية تضم أكثر من ثلاثين مليون إنسان وتمتد من ديار بكر التركية إلى تبريز الايرانية وتصل حدودها إلى ضفاف بلغاريا واليابان. والسؤال، ما الحاجة راهناً لتغيير الخرائط إن كان سيفتح الباب أمام الفوضى وإيجاد تداعيات غير محمودة تغذي شهية المتنافسين للسيطرة على المنطقة؟! بخاصة وأن واشنطن لا تزال قادرة على ضمان هيمنتها ومصالحها الاستراتيجية من دون المساس بالتركيبة الجغرافية والسياسية القائمة، إما من خلال استبدال السلطات القديمة بسلطات موالية لها، كما كانت الحال في سلسلة الانقلابات العسكرية التي رعتها وأطاحت أنظمة كانت تحسب على النفوذين الفرنسي والبريطاني، أو من خلال الاتكاء على التنوع المجتمعي العربي وإثارة حقوق مكوناته لإعادة ترتيب أوزانها وعلاقتها مع السلطة والدولة الوطنية، بما في ذلك تشجيعها على إقامة مناطق حكم ذاتي واتحادات فيدرالية على أساس الانتماء القومي او الديني، ما يقطع الطريق، في الوقت ذاته، على احتمال نشوء دولة قوية تحترم مكوناتها العرقية والطائفية وقادرة على محاصصة النفوذ الأميركي وإرباكه.
هي فرصة ثمينة أن تلجم التوازنات الراهنة على الصعيدين العالمي والإقليمي إمكان تقاسم «تركة الرجل العربي المريض» إن صحت التسمية، وأن تشكل عائقاً موضوعياً ضد تفكيك الأوطان ورسم خرائط جديدة للمنطقة من منظور قومي أو ديني، هي فرصة يفترض بالنخب السياسية الوطنية أن تستغلها في سياق شعارات التغيير نحو الحرية والكرامة التي أطلقها الربيع العربي، لإرساء قواعد الحياة الديموقراطية في مجتمعاتها، والتي من دونها لا تمكن معالجة أزماتها المزمنة وبناء داخل وطني صحي يضمن حقوق مختلف مكوناته ويكون قادراً على استيعاب تأثيرات الخارج ورد شروره. |