التاريخ: تشرين الثاني ٢, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الإسلام بين الليبرالية والإرهاب - السيد يسين
طرحت منذ زمن في الدوائر الأكاديمية والأوساط السياسية إشكالية مفادها: هل هناك تناقض حتمي بين الإسلام والليبرالية؟ أم أنه يمكن إقامة تأليف فكري وسياسي خلاق بين مبادئ الإسلام الأساسية وقواعد الفكر الليبرالي وخصوصاً بين الشورى والديموقراطية؟

ورغم أنه يمكن لنا - من زاوية منهجية بحتة - الاعتراض على صوغ هذه الإشكالية، لأنه لا يجوز وضع دين مثل الإسلام في مقارنة مع إيديولوجية سياسية صاغها البشر، إلا أنه لو تغاضينا عن هذا الاعتراض الجوهري فإن الإشكالية تم بحثها بعمق واختلفت الآراء بصددها اختلافات عميقة بحسب التحيز المسبق لصاحب كل رأي دخل في هذه المساجلة.

وهناك إشكالية أخرى بزغت وخصوصاً بعد الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول (سبتمبر) وهي: هل هناك علاقة بين المعتقدات الإسلامية والإرهاب، بحيث يحق لبعض المحللين السياسيين أن يتحدثوا عن «الإرهاب الإسلامي»؟

أنا أثير هذه المشكلات جميعاً لمناسبة الحدث البارز الذي وقع في تونس وهو فشل حزب «النهضة» الإسلامي بقيادة الشيخ راشد الغنوشي في الحصول على الأكثرية في انتخابات مجلس النواب، ونجاح حزب علماني مدني هو «نداء تونس» برئاسة السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي، والذي كان من رفاق الحبيب بورقيبة وشغل مناصب سياسية مهمة في كل عهود تونس. وقد حصل «نداء تونس» على 85 مقعداً في البرلمان الذي سيضم 217 نائباً مقابل 69 مقعداً لحزب «النهضة» الإسلامي.

وبعيداً من التعليقات السياسية المباشرة على هذا الحدث السياسي والذي له أبعاد بالغة الأهمية على مستقبل الديموقراطية في العالم العربي - سواء في ذلك ردود فعل أنصار الدولة المدنية وشماتتهم بالمنادين بالدولة الدينية، أو الأسى والأسف الذي أبداه قادة حزب «النهضة» أو دوائر «الإخوان المسلمين» العالمية - فإننا نريد أن نتعمق في البحث في الموضوع.

ولنحاول أن نلقي الأضواء على الإشكالية الأولى وهي: هل هناك تناقض بين الليبرالية والإسلام؟

سنعتمد في التحليل على نصين أساسيين أحدهما كتبه عالم سياسة أميركي مشهور متخصص في شؤون الشرق الأوسط وهو ليونارد بايندر في كتابه الكلاسيكي الذي نشر عام 1988 بعنوان «الإسلام الليبرالي» من ناحية، وعلى نص مهم كتبه أكاديمي مصري مقيم في الولايات المتحدة الأميركية هو الدكتور خالد أبو الفضل بعنوان «الإسلام والديموقراطية: تعارض أو لقاء؟».

الواقع أنه يمكن القول إن بايندر هو الرائد الفكري الذي صاغ مفهوم «الإسلام الليبرالي» ليثبت أنه ليس هناك تعارض بين الإسلام والليبرالية والذي أصبح من بعد هو الملهم النظري للباحثة الأميركية شيرلي بينار في مؤسسة «راند» الأميركية في سلسلة دراسات نشرتها ابتداء من عام 2003، والتي تمحورت حول الدعوة إلى «إسلام معتدل»، بل وحض الحكومة الأميركية على إنشاء وتمويل شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم العربي.

وبحوث شيرلي بينار هي الأساس الذي صاغت في ضوئه الحكومة الأميركية استراتيجيتها في التحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وتأييدها المطلق، بعد أن نجحت في إيصال مرشحها الدكتور محمد مرسي إلى منصب رئاسة الجمهورية.

ومن الأهمية بمكان - في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم - أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه وهو يقول وأنا أقتبس: المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية. وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس إيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط. ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه من دون تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، رغم ظهور دول بورجوازية.

ونريد أن نقف بالتحليل قليلاً أمام هذه النتيجة المهمة التي صاغها بايندر مبكراً حقاً (عام 1998)، لأنها هي الفكرة الجوهرية التي قامت عليها في الواقع بحوث شيرلي بينار عن «الإسلام المدني الديموقراطي»، بل إن هذه النتيجة المهمة هي التي قامت على أساسها تحركات سياسية لقوى إسلامية محددة، وللولايات المتحدة الأميركية.

بالنسبة للتحركات السياسية للقوى الإسلامية يمكن أن نتابع التطورات التي لحقت بفكر جماعة «الإخوان المسلمين» في العقود الأخيرة، حيث قبلوا الممارسة الديموقراطية، وقبلوا فكرة الأحزاب السياسية، بل ودخلوا معترك الانتخابات المصرية وكان لهم في برلمان 1987 عشرات النواب.

وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية ليونارد بايندر بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة - إلى أن يصدر عالم السياسة الأميركي رايموند ويليام بيكر عام 2003 كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه «إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد» نشرته جامعة هارفارد. وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتّاب الإسلاميين المعروفين وهم: أحمد كمال أبو المجد، وطارق البشري، وفهمي هويدي ومحمد سليم العوا.

وهكذا انتقلت نظرية بايندر عن الإسلام الليبرالي إلى رايموند بيكر الذي احتفى بظهور من سمّاهم «الإسلاميين المستقلين» الذين حاولوا - كل بطريقته - التقريب بين الإسلام والديموقراطية.

ليس ذلك فحسب بل إن هذه الفكرة لقيت قبولاً لدى جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر قبل ثورة 25 يناير، لأنهم أسقطوا تمسكهم القديم بالشورى باعتبارها تسمو على الديموقراطية الغربية لأن أصلها - كما كانوا يقولون - «إلهي» في حين أن الديموقراطية مذهب سياسي من صنع البشر. وتأكيداً لهذا التحول الجوهري في عقائدهم الجامدة دعوا قبل ثورة 25 يناير إلى إنشاء حزب سياسي لـ «الإخوان»، وأرسلوا مشروعهم إلى عشرات المثقفين المصريين العلمانيين لإبداء الرأي، وكنت واحداً منهم.

وأذكر أنني استجابة لدعوة «الإخوان» نشرت مقالة في «الأهرام» منتقداً النص في مشروعهم على أن قرارات رئيس الجمهورية والمجالس البرلمانية لا بد أن تعرض على «مجلس أعلى للفقهاء» لإقرارها! وقلت في هذه المقالة: «هذه إذن هي ولاية الفقيه ولكن على الطريقة السنّية»!

وإحقاقاً للحق فإن جماعة «الإخوان المسلمين» قبلت هذا النقد وحذفت النص من النسخة المعدلة.

غير أنه جرت تحت الجسر مياه عديدة منذ ذلك الوقت، فقد نجحت جماعة «الإخوان» في الوصول عبر الانتخابات إلى منصب رئيس الجمهورية في مصر، وحصلت هي وحزب «النور» السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. غير أن حكم «الإخوان المسلمين» تحول من ممارسة ديموقراطية إلى حكم ديكتاتوري خالص كشف عنه الإعلان الدستوري الشهير الذي كان انقلاباً من الدكتور محمد مرسي نفسه على حكم «الإخوان»، وهو – مع انحرافات سياسية أخرى- هو الذي فجر الانقلاب الشعبي في 30 حزيران (يونيو).

ومنذ سقوط حكم جماعة «الإخوان المسلمين» وهم يمارسون الإرهاب بشكل منهجي ضد السلطة بل ضد جموع الشعب المصري، وهكذا تحول «الإسلام الديموقراطي» إلى إسلام إرهابي!

غير أن نتائج الانتخابات التونسية تدعونا للتساؤل هل يمكن فعلاً – وفق التجربة السياسية الرشيدة لحزب «النهضة» التونسي، وكما ذهبت إلى ذلك أصوات متعددة من قبل – التأليف الخلاق بين الإسلام والليبرالية؟

* كاتب مصري