يعيش لبنان منذ سنوات حالة يصعب توصيفها بدقّة. فيها تهالك للدولة المركزية، وفيها عجز عن المحافظة على الحدّ الأدنى من استمرارية عمل المؤسسات الدستورية، وفيها فضائح متتابعة لا تحرّك نيابات عامة، وفيها توتّرات أمنية وتفجيرات متنقّلة بين المناطق، وفيها حربٌ خارجية، وفيها تبدّل ديموغرافي وأزمات اقتصادية – اجتماعية وممارسات عنصرية؛ ولكن فيها في مقابل كلّ ذلك ديناميات ثقافية عديدة، وحملات تضامن إنساني نبيلة، ومحاولات يومية للتحايل على المصائب والاستمرار في العمل والإنتاج والدراسة واللهو كما لو أن الحياة "عادية".
وقد يفيد استحضار أمثلة للتذكير ببعض المفارقات المذكورة.
ففي السنتين الماضيتين شهدت طرابلس وصيدا وبعدهما عرسال إشتباكات ومعارك دامية، وانفجرت عبوات ناسفة في طرابلس والضاحية الجنوبية لبيروت، ومع ذلك لم تتبدّل كثيراً أحوال العاصمة أو أحوال جونية وصور وإهدن وغيرها من المدن القريبة-البعيدة عن مسارح الأحداث القاتلة.
وفي السنتين الماضيتين أيضاً ارتفع عدد سكّان لبنان 25 في المئة، نتيجة توافد مئات آلاف اللاجئين السوريين والفلسطينيين. بعض هؤلاء حرّك العجلة الاقتصادية استهلاكاً وإيجارات وإيداعات مصرفية.
وبعضهم الآخر انخرط في قطاعات البناء وفي أنشطة زراعية وصناعية وحرفية وخدماتية مخفّضاً كلف الإنتاج وأسعار العديد من المنتجات. وبعضهم الأخير عاش وما زال في ظروف صعبة ضاعفت من صعوبات الحياة في بعض المناطق الطرفية اللبنانية (في الشمال والبقاع الشمالي) ومن الضغط البشري والمعيشي في المخيّمات الفلسطينية، كما في المدن الكبرى لا سيّما في بيروت. ونجم عن كلّ ذلك كمّ من ردود الأفعال المتباينة، المراوحة بين التضامن واللامبالاة والعدائية الجرمية. كما نجم عن الأمر تزايد للضغط على البنية التحتية وعلى المياه والكهرباء وأوضاعهما أساساً هشّة، بما يُنذر بصعوبات كثيرة مقبلة.
وفي السنتين الماضيتين، مدّد مجلس النواب اللبناني لنفسه لعجزه عن إقرار قانون انتخاب جديد (وهو مقبل بعد أيام على تمديد ثانٍ)، وفشل المجلس إياه ومن خلفه الطبقة السياسية في انتخاب رئيس جمهورية، كما فشلوا في جعل الأداء الحكومي متماسكاً أو على مستوى التحدّيات، فبدت السلطة التنفيذية التي تطلّب الاتّفاق على الحصص فيها أشهراً قبل تشكيلها وكأنها سلطة تصريف أعمال.
الأخطر، أن هذا جرى ويجري في وقت يخوض فيه حزب لبناني حرباً في سوريا، فيرسل آلاف الشبّان إليها منتهكاً الحدود والقوانين الدولية للقتال دفاعاً عن نظامها، مقحماً البلاد التي يشارك في سلطاتها المركزية المترنّحة في صراع لا يملك القدرة على إنهائه أو حصر موضعه أو منعه من التحوّل الى صراع مذهبيّ مُميت.
في مقابل المشهد البائس وتفاصيله المُشار إليها، تستمرّ الأنشطة الثقافية والفنية المتنوّعة، وتتحضّر بيروت لمعارض كتب ويتمّ الإعلان عن حفلات موسيقية وتُنظّم مهرجانات موسمية ذات مستوى رفيع.
كما تستمر الدراسة (رغم فضيحة الإفادات) وتُسيّر إدارات عامة وخاصة أعمالاً وخدمات في ظروف قاهرة، وينظّم ناشطون مدنيّون حملات تضامن مع اللاجئين أو يُطلقون مبادرات حقوقية حول قضايا متعدّدة، وتنعقد مؤتمرات علمية وندوات دولية ودورات سينمائية، وكأن في البلد ما يشي بطبيعية الأحوال أو بإقبالها على أفقٍ بلا أهوال.
هذه المفارقات والتناقضات النافرة أحياناً والمتعايشة تُبقي على الأرجح بعض الأمل. وهي تدفع للتفكير - في ما يتخطّى الإشكاليات السياسية - بحياة هذا الكيان وبالقدرة الاستثنائية للمقيمين فيه على التنابذ والفُرقة والولاء للخارج لهشاشة إجماعاتهم الوطنية، وفي الوقت عينه، على إظهار طاقة استيعابية مُذهلة للأزمات والتبدّلات رغم غياب السلطة المركزية وركاكة الطبقة السياسية واستئثار فئات بشؤون وقرارات خطيرة...
ولعلّ هذا ما يفسّر الاقتراب كلّ فترة ممّا يبدو انهياراً شاملاً، ثم التراجع عنه خطوة والتيقّن أنه قد لا يحصل، أو أنّه على الأقل ما زال مؤجّلاً...
|