في زيارةٍ قمت بها بمعية أعضاء من "اللجنة الوطنية لحماية السلم الأهلي"، التي شكلها لفيف من الأصدقاء، وشرّفوني بعضويتها، رافقنا لفيف من مقاتلي "غرباء الشام" إلى مقر إخوتنا الكرد في المدينة، لبدء محادثاتٍ أردنا لها أن تنهي الاقتتال فيها، وهو ما تحقق بالفعل على أيدي ممثلين من الطرفين "المتقاتلين". حين وصلنا إلى المقر، استقبلنا قرابة مائتي مواطن كردي بهتاف "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد". وبعد قليل، تعانق كثيرون منهم مع مقاتلي الغرباء، الذين جاؤوا معنا من دون موافقتنا، خشية أن يثير حضورهم المشاعر، ويسبب مشكلة تقوض فرص نجاحنا. طفرت عندئذ الدموع من عيني وأعين كثيرين، لأن بعض من تعانقوا كانوا يتحاربون قبل ساعات قليلة. أقنعتني الحادثة بصحة شعار الثورة المجيدة "الشعب السوري واحد".
تقاطع رأيان في الوسط السياسي المعارض، وخصوصاً منه المحسوبة على الديمقراطية، حول العلاقات التي ستقوم بعد الثورة، بين مكونات ما أسماه برهان غليون "الجماعة الوطنية السورية"، تفرع عنهما خلاف مفصلي، وترتبت عليهما نتائج جد متعارضة، قال أولهما بأولوية مشاركة جميع مكونات هذه الجماعة، وبكل ما تمتلكه من قوى في معركة إسقاط الاستبداد، على أن تنظم بعده علاقات الداخل السوري، في إطار الفكرة الديمقراطية والروح التكاملية، وعلى أرضية منجز وطني، شارك فيه الجميع، وضحوا من أجله، مع بقاء باب الحل مفتوحاً على جميع الاحتمالات، بما فيها احتمال الفيدرالية. كنت شخصياً مع هذا الرأي.
لذلك، وافقت على أية اتصالات، الهدف منها رسم صورة سورية المستقبل، بتوافق يلزم الجميع، يرتكب من يخرقه جرم الخروج على إجماع وطني. في المقابل، كان هناك تيار آخر، عبر عنه الأستاذ صالح مسلم أكثر من أي شخص آخر، رأى في الأمر الواقع ضمان حقوق الكرد في سورية وما وراءها، وآمن بقدرته على تمرير ما يريد، وسط تطاحن واسع، لا يعرف أحد إلى أين سيصل، وطور خطاً سياسياً لإنجاح مشروعه، جمع فيه أضداداً تتحدى قدرات كرد الجزيرة، وعربها وسريانها وكلدانها وآشورييها وشركسها وشيشانها وتركمانها وأرمنها مجتمعين، كالمحافظة على علاقاته مع النظام، وفي الوقت نفسه، على عضويته في هيئة التنسيق، وإعلانه أن كرد الجزيرة هم شعب غرب كردستان، وأن مناطقهم يجب أن تخضع لما أسماها إدارة ذاتية ديمقراطية، سيقيمها حزبه، ما لبث أن حكم سكانها من مختلف القوميات، بطرقٍ، لا تتفق مع أبسط متطلبات الديمقراطية وقيمها، بينما منع الجيش الحر من دخولها، أو المرابطة فيها، بحجة أنها أرض محررة، واستلم بعضها من مخابرات النظام بكامل أسلحتها.
خال السيد مسلم أنه قفز من فوق الجميع، وانتقل، ونقل الكرد إلى المستقبل، أي إلى ما بعد الأوضاع الراهنة. وظن أن منطقته صارت، بالفعل، نواة دولةٍ، لن يتمكن أحد من تغيير واقعها، لأنها غدت أمراً واقعاً، عبر عنه بأسماء، تشاع، أول مرة، في لغة السياسة السورية، كتسمية منطقة الجزيرة "روج آفا" التي ستكون، في الحد الأدنى، جزءاً مستقلاً نسبياً من فيدرالية سورية، وفي الحد الأعلى، جزءاً من دولة كردية شاملة، ستقوم في سورية والعراق وتركيا، كما كان مقرراً لها في اتفاقية سان ريمو.
أخطأ السيد مسلم في أولوياته السياسية، وحساباته السورية والإقليمية، وحمّل أكراد الجزيرة فوق ما يطيقون ويستطيعون، وزجّ بهم في مغامرة أساء توقيتها، وها هم يتبينون في خضم معركة "عين العرب – كوباني" ومضاعفاتها فداحة أخطائه، والعبء الثقيل الذي ألقاه على عاتقهم، في ظرفٍ لن يتمكنوا من القفز فوقه، في الوضع، الداخلي والعربي والإقليمي، وسيكون فوق قدراتهم تحديد صورتهم النهائية مكوناً وطنياً سورياً، في معزل عن غيرهم أو ضد إرادته، كأن انتماءهم السوري لا يرتب عليهم أية التزامات وطنية، أو أي تضامن مع بقية مواطنيهم، أو كأن اللعب على حبال التناقضات يمكن أن يكون سياسة تخدم مصالحهم، أو كأن نجاح مشروع قومي يمكن عزله عن الظرفين، الدولي والإقليمي، وإرادة بقية مكونات الجماعة الوطنية السورية، التي إن فشلت ثورتها أخفق، وإن نجحت استطاعت أن تعيد النظر فيه، هذا إذا سمحت تركيا وإيران وسورية بتمريره.
يقال إن رئيس وزراء تركيا أعلم السيد مسلم بشروط إنقاذ "كوباني- عين العرب"، وهي تتصل جميعها بالخطوط الحمر، التي ظن أنه تخطاها، وانتهى الأمر، وهي، قطع علاقاته مع النظام السوري، والتعاون مع الجيش الحر، وحماية حدود تركيا وأمنها. بكلام آخر، إلغاء مشروعه عن الإدارة الذاتية، لأنها أكثر من ذلك بكثير.
بالمناسبة، منع السيد صالح مسلم دخول الجيش الحر إلى منطقة الإدارة الذاتية، واليوم، يقدم هذا الجيش 40% من المدافعين عن عين العرب، وأعلن، قبل يومين، عزمه على إرسال ألف من مقاتليه لرد "داعش" عنها، بينما عزا مسلم سقوط بعض مناطق المدينة إلى وحدات من هذا الجيش، في سياق إيجاد أجواء مسمومة مع بقية مواطني سورية. وتكشف هذه الوقائع، على خير وجه، عن أفظع خطأ ارتكبه السيد مسلم: اعتقد أن الشعب السوري لم يعد واحداً، وعليه المسارعة إلى الإفادة من انقساماته وزوال وحدته، لاقتطاع أكبر قسم ممكن من كعكته كشعب سابق، لم يعد له وجود، ومن أرضه أيضاً باعتبارها أرضاً كردستانية، مع أن ما يجري في "كوباني – عين العرب" يؤكد الاستراتيجية البديلة، استراتيجية وحدة السوريين شعباً في الصرع ضد الأسد ونظامه، رفضها صالح مسلم، وقادته إلى سياسة كارثية النتائج على الشعب الكردي، سيحول قيامها دون بناء دولةٍ ديمقراطيةٍ لجميع السوريين، جماعات وأفراداً، يمكن للسيد صالح أن يقيم فيها نظاماً فيدرالياً أو لا مركزياً هو رئيسه، باختيار شعب وطننا الحر وتأييده.
تحدت مجريات معركة "عين العرب – كوباني" خيار الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي طاردت الكرد بصورة منظمة، بل أسقطته. لذلك، من الأهمية بمكان أن يخلي مسلم مكانه لقيادةٍ أولويتها إسقاط الأسد، وإقامة دولة ديمقراطية، لا تنكر حقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية، بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم.
ميشيل كيلو كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض. |