منذ بداية الأزمة التي فجرها اجتياح "داعش" مناطق واسعة في العراق، واحتلاله الموصل، وإعلانه قيام "الدولة الإسلامية"، لم تبق دولة معنية بالموضوع، من دون أن يطالها النقد، فقد اتهم العرب عن حق الغرب، والرئيس الأميركي باراك أوباما خصوصاً، بتحمل المسؤولية عن انهيار الأوضاع، بسبب سياساته الضعيفة في المشرق. وردت الإدارة الأميركية، عن طريق نائب الرئيس، جوزيف بايدن، باتهام السعودية والإمارات وتركيا بالمسؤولية لدعمها المنظمات المتطرفة، بما فيها "داعش". الدولة الوحيدة التي بقيت بعيدة عن الاتهامات وتحمل المسؤولية هي إيران، وكانت مشاركتها في التحالف الدولي لمواجهة "داعش"، وربما لا تزال عند بعضهم، مسألة مطروحة للبحث. والحال أن جميع الأطراف، العربية والدولية، تعرف أن طهران هي المشكلة، والمزود الرئيسي بالوقود لكل ما يجري في المشرق من حروب ومنازعات داخلية وتهديدات ومؤامرات، تستهدف استقرار الدولة والسلام الأهلي، في أكثر من بلد عربي. وهي، نفسها، لا تخفي وقوفها وراء حركات زعزعة الاستقرار، وتقديمها الدعم، بالخبرة والمال والسلاح، لمليشيات محلية، تستخدمها أدوات لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية في تحويل المشرق إلى بؤرة مشتعلة، باسم المقاومة ضد إسرائيل، أو تصدير الثورة الإيرانية، أو الوقوف ضد التدخل الغربي.
في لبنان، تمسك مليشيا حزب الله التي تشكلت بدعم مباشر وكامل من الحرس الثوري الإيراني، بالدولة من تلابيبها، وتفرض على الفرقاء الخيار بين الحرب الأهلية والانصياع لخيارات الحزب وسياساته التي تهدف، أولاً، إلى فرض الوصاية على الدولة اللبنانية، وإخضاعها لأجندة السياسة الإيرانية، بما في ذلك المشاركة في حروبٍ تخوضها إيران خارج حدود لبنان. وفي النهاية، تحييد الدولة اللبنانية، وإفراغها من حقوقها السيادية، وتحويل الحزب، ليس إلى دولة داخل الدولة، ولكن إلى الدولة الوحيدة المليئة على حساب الدولة الواجهة الفارغة والفاقدة أي سيادة، أو ملاءة، سياسية.
والواضح أن نجاح النموذج اللبناني في اختطاف الدولة، وتوظيفها في مشروع الهيمنة الإقليمية، شجع إيران على تعميمه في المشرق، لتقويض سلطة الدولة وتفكيك الوطنية المحلية، والتحكم في المجتمع بالتلاعب بالتمايزات الطائفية والقبلية. ومثال اليمن واضح، حيث نجحت طهران بتبنيها قضية الحوثيين في تشكيل حزب ومليشيا أنصار الله التي تكاد تكون نسخة مطابقة للطبعة اللبنانية، تماماً كما تشكل استراتيجية القضم التدريجي لسيادة الدولة، والتهديد بالحرب الأهلية، الطريق الأقصر لفرض وصايتها على الدولة اليمنية، وإجبار الجميع على قبول هذه الوصاية، لتجنب الحرب.
ولم يسلم العراق الذي سقط في حضن طهران ثمرة ناضجة من هذه الاستراتيجية، فبدل أن تساعد إيران السلطة الجديدة التابعة لها على إعادة بناء الدولة فيه، على أسس سياسية وطنية وقانونية، اختارت أن تغرق الدولة التي تسيطر عليها نخبة شيعية، مرتبطة مباشرة بها، وتابعة لسياساتها، بمليشياتها العديدة المرتبطة بالزعامات الدينية والحرس الثوري الإيراني. وحتى عندما تفجرت أزمة نظام نوري المالكي، المغرق في الطائفية، باجتياح "داعش" جزءاً كبيراً من أراضي العراق، وانهيار جيش المليشيات أمامه، لم تفكر طهران، وأتباعها، في تغيير الصيغة الطائفية والعصبوية للحكم، والعودة إلى دولة المواطنة التي تضمن إشراك الجميع بالتساوي، وفضلت صنع مليشيات جديدة في المناطق الثائرة. وهذا يعني، بدل أن تدرج العراقيين جميعاً في جيش وطني واحد، قررت أن تكلف مليشياتٍ، أتبعتها بالعشائر، بمواجهة "داعش"، بينما تدافع مليشيات الطوائف عن احتكار السلطة في بغداد.
وفي سورية التي ألحقتها بدولة حزب الله في لبنان، لم تكتف طهران بتحويل الجيش السوري إلى مليشيا ملحقة بالأسد، وخاضعة لتوجيه قادة الحرس الثوري الإيراني، لكنها استخدمت الأسلوب نفسه في تحييد الدولة ومؤسساتها، لصالح المليشيات، فأعلنت تشكيل جيش الدفاع الوطني الذي اعتبرته بمثابة الحرس الثوري الإيراني في سورية. ومع اشتداد ضغط الثوار على النظام، لم تتردد في زج مليشياتها العديدة، الموزعة على اتساع المنطقة، في حرب قمع الثورة السورية، إلى جانب الديكتاتور الدموي، بدءاً من حزب الله، إلى عصائب أهل الحق وأبو الفضل العباس وجيش المهدي، وغيرها من المليشيات العراقية والأفغانية والدولية، بالإضافة إلى عناصر من الحرس الثوري نفسه.
هذه النزاعات الدموية، المستمرة منذ سنوات في أكثر من بلد عربي، جزء من استراتيجية طهران لتفجير المشرق العربي وإخضاعه، لتكوين منطقة نفوذ حيوية لها، على مثال ما حلمت به ألمانيا الهتلرية، في منتصف القرن الماضي، في أوروبا، وللضغط على الدول الغربية، لإجبارها على الاعتراف بحق إيران في امتلاك السلاح النووي. وبالتأكيد، ليست سياسة طهران المسؤولة الوحيدة عن انتشار العنف في المجتمعات العربية، فانهيار التفاهمات الوطنية التي قام عليها استقرار الدول العربية، نصف القرن الماضي، وقوضتها الديكتاتورية الدموية وفساد النخب، فجّر أزمة سياسية عميقة، ووضع مجتمعات عربية عديدة على شفا الحرب الأهلية، لكن إيران دخلت على خط الأزمات الوطنية الداخلية، وبشكل أكبر، بعد ثورات الربيع العربي، لكي تضع بيضها فيها، وشحنتها بأفكار وقوى وأهداف، تزيد في إضرام النار فيها، وتقوّض رهاناتها السياسية الأصلية، وتحرفها عن أهدافها، وتدفع بها إلى أنفاقٍ، يصعب الخروج منها. إن ركوب طهران ظهر الصراعات السياسية العربية، من أجل تحقيق أهدافها الخاصة، المسؤول الرئيسي عن تحويل صراعات محلية داخلية وسياسية إلى حروب إقليمية ودولية، غير قابلة للحل، أو تملك طهران وحدها مفتاح التحكم بها، وإلى تعفن الوضع، واندلاع الحروب الطائفية، وحرق الأرض التي يمكن أن تعيش فيها أية أفكار، أو علاقات سياسية مدنية، أو إنسانية.
لم أكف، منذ بداية الثورة السورية، عن تذكير الغربيين بالمشكلة الإيرانية التي هي من بقايا حسابات السياسات الاستعمارية والإمبريالية المعلقة، وأنه من دون إيجاد حل لهذه المشكلة، لن يكون هناك حل للحروب الدموية التي تغذيها طهران، وتستخدمها للضغط على الدول الغربية، لإجبارها على القبول بمطالبها، وإلحاق البلدان المشرقية بها. والواضح أن الغرب الذي يئس من إمكانية التوصل إلى تسوية مع طهران، ولا يرغب في مواجهة مطامعها التوسعية، ودفع ثمنها، قد قبل بالتضحية بالمشرق العربي، ولم يعد يفكر في إمكانية إيجاد حل لمعاناة السوريين، أو اليمنيين، أو العراقيين، أو اللبنانيين. وهذا فهمته طهران، فتتصرف في بلدان المشرق، وإزاء دوله، كأرض مباحة، لا تحترم تجاهها سيادة ولا شرعية دولية ولا قانوناً. تدرب المليشيات وتسلحها علناً، وتنظم الحروب الأهلية التي يقودها ويخطط لها قادة عسكريون إيرانيون معروفون. هكذا تكاد سورية أن تصبح بلداً مدمراً بالكامل، بعد تحطيم دولتها وتشريد شعبها، من دون أن يثير عمل إيران اعتراض أحد، واليمن يدخل في الدوامة نفسها، مقدمة للتهديد الصريح بنقل الأزمة نفسها إلى دول الخليج، لاحقاً. ربما لا تستطيع إيران أن تهاجم الخليج مباشرة، وتضعه تحت سيطرتها، لأنها ستتعرض لهجوم مباشر، لكنها تستطيع تقويض استقراره وزعزعة دوله، وإشعال حرائق فيه، من الصعب إطفاؤها.
على استراتيجية إشعال الحرائق الإيرانية هذه في المشرق العربي، والتي تختلط في صياغتها غطرسة القوة، والشعور بالغبن، ومشاعر العظمة القومية، والاعتقاد باحتكار الحقيقة الدينية، وضرورة الهرب إلى الأمام، يكرر الغرب موقفه الاستسلامي، أمام النازية الألمانية، منتصف القرن الماضي، أي التضحية بالدول الضعيفة، لتجنيب نفسه تكاليف الحرب والمواجهة. ومن أجل إشغال الرأي العام عن المشكلة الحقيقية، ينظم حرباً "إلكترونية" على أطراف المشكلة، يذكّر من خلالها بقوته، ويطمئن الوحش على سلامة نيته.
لن تنقذ مثل هذه الحرب المشرق من مصيره المحتوم، ولا أمل له في مواجهة حرب التقويض الزاحف لأسس وجوده وبقائه، ما لم يفكر وينجح في تنظيم رد جماعي قوي ومتسق، يقنع طهران بوقف العدوان المستمر، ويقنع الغرب والشرق بأن لديه القدرة والإرادة والوعي، ليكون شريكاً يعتمد عليه، في بناء شرق أوسط مستقر، قائم على الاحترام المتبادل، لا عالة على النظام الدولي. وهذا يتطلب، قبل أي شيء، وقف حرب تصفية الحسابات العربية الداخلية، والجلوس على طاولة حوار عربي عربي، لإعادة بناء نظام المشرق نفسه، وقواعد عمله تجاه شعوبه، وبين دوله، على أسس سياسية وقانونية، غير القائمة على الولاءات الشخصية والالتحاق التي تسود منذ نشوئه.
برهان غليون مفكر سوري، مواليد 1945، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، كان أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: "بيان من أجل الديمقراطية" و"اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة". |