التاريخ: تشرين الأول ١٦, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الأقباط من عهد الذمّة إلى الربيع العربي - محمد عفيفي
حمل القرن التاسع عشر بشائر الأمل بمزيد من اندماج الأقباط في الواقع المصري، لا سيما في العام 1855 في عصر سعيد، بإسقاط الجزية عنهم وإلحاقهم بالجندية للمرة الأولى منذ مئات السنين. وهما خطوتان ستساهمان في ازدياد ارتباط الأقباط بالحركة الوطنية.

لكن الأقباط لم ينسوا أن بعثات محمد علي التعليمية الى أوروبا لم تضم أحداً منهم، وبالتالي محدودية دورهم في الإدارة والحكم طوال القرن التاسع عشر بالمقارنة بثرائهم الاقتصادي، لا سيما مع استقرار قوانين الملكية الزراعية في مصر وتطبيق سياسة الباب المفتوح بعد عصر محمد علي.

من هنا كان تأييد الأقباط للثورة العرابية نتيجة الشعار الذي رفعته «مصر للمصريين»، ما يتيح للأقباط مساحة أكبر في الساحة المصرية. لكن فشل الثورة العرابية ومجيء الاحتلال البريطاني، كانا بمثابة ضربة قاصمة لهذا الشعور الوطني الوليد... سواء عمد الاحتلال البريطاني إلى سياسة «فرّق تسد» بين المسلمين والأقباط، أو مال بعض الأقباط إلى جانب الاحتلال البريطاني بإلحاح من الروابط الدينية وطمعاً بمساحة أكبر من الوجود في ميدان الإدارة والوظائف الحكومية، أو أن الاحتلال الأجنبي أثار المشاعر الإسلامية، كما حدث أثناء الحملة الفرنسية، ضد المسيحيين، الأقباط منهم والأجانب، فإن العلاقات بين المسلمين والأقباط في ظل الاحتلال البريطاني وصلت إلى أسوأ حالة لها.

ضاعف من ذلك انتشار فكرة الجامعة الإسلامية على يد الحزب الوطني ومصطفى كامل وأنصاره، وأيضاً انتشار مفهوم «الأمة القبطية» لدى بعض الأقباط، لا سيما مع النهضة الثقافية التي عرفتها الكنيسة القبطية في القرن التاسع عشر وإنشاء المدارس ومحاولة إحياء اللغة القبطية. وتتضح مظاهر الصراع بين المسلمين والأقباط آنذاك، في مقتل بطرس باشا غالي، أول رئيس وزراء مصري قبطي، على يد أحد المسلمين. وبينما رأى الأقباط أن بطرس باشا لم يقتل إلا لأنه قبطي، يرى البعض أن قتله كان لمناصرته الاحتلال، ولأسباب وطنية أخرى. وفي الحال تبادل المسلمون والأقباط عقد المؤتمرات، فعُقد المؤتمر القبطي في أسيوط والمؤتمر الإسلامي في القاهرة، ثم هدأت الأمور بعدما تركت رصيداً من الحساسية لا تزال ذكرياته كامنة في الصدور حتى الآن. 

الأقباط وثورة 1919

عندما اندلعت ثورة 1919 وتكوّن الوفد المصري الذي سيفاوض الانكليز من أجل الاستقلال، ثار لغط عند بعض القطاعات القبطية لخلوّه من الأقباط. وعقدت اجتماعات بين بعض وجهاء الأقباط في أحد الأندية القبطية وهو نادي رمسيس. وانتهوا إلى إرسال بعضهم إلى سعد زغلول لمناقشته في هذا الأمر، وطالبوه باختيار عضو قبطي ضمن أعضاء الوفد المكلف الكفاح من أجل الاستقلال، وهو ما وافق عليه.

وفي رأينا أن أهم ما شجع الأقباط على الانخراط في ثورة 1919 هو علمانيتها الواضحة منذ البداية، مع أهمية العامل الديني فيها، إلى جانب نجاحهم في الحصول على دور سياسي فيها منذ البداية، ثم الاطمئنان إلى مستقبلهم السياسي عندما أجاب سعد زغلول لدى سؤاله عن وضع الأقباط بعد الاستقلال: «يكون شأنهم شأننا، لا فرق بين أحد منا إلا في الكفاءة الشخصية».

ولكن مع استرخاء المد الثوري لثورة 1919 والصراع الحزبي عقب الثورة، عادت الطائفية لتطل من جديد في الساحة المصرية وتراجعت الوحدة الوطنية التي عرفتها مصر في ثورة 1919. وإذا استعنّا بالأدب مصدراً لدراسة التاريخ، فإن ثلاثية نجيب محفوظ تعبر عن ذلك خير تعبير. يقول رياض قلدس المثقف القبطي العلماني: «إنني حر (علماني) وقبطي في آنٍ واحد، بل إنني لا ديني وقبطي ما... أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني... وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت... ولكن مهلاً أليس من الجبن أن أنسى قومي؟ شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة».

الهجرة هي الحل

وزاد من عمق المشكلة في هذه الفترة تصدّع حزب الوفد وضعفه نتيجة الصراعات الحزبية، فضلاً عن الانشقاقات المتتالية منه، وهو الحزب الذي كان مؤهلاً للقيام بدور وعاء القومية المصرية. كما ساعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين على ازدياد الحساسية لدى الأقباط وانسحابهم من الساحة السياسية، اللهم إلا بعض المشاركة في الحركة الشيوعية نتيجة علمانيتها وأمميتها. ودخل الأقباط في المقابل ساحة الكنيسة لتكون لهم هي العزلة والهجرة عن الواقع السياسي المصري، ساعد على ذلك ظهور مدارس الأحد في الكنائس القبطية، وبداية ظهور المثقفين في حركة الرهبنة القبطية، ما سينعكس أثره في ظهور قيادات كنسية جديدة على أعلى درجة من الثقافة، تستطيع أن تستوعب القبطي في الكنيسة، ليجد القبطي العادي نفسه في نشاطه الكنسي الاجتماعي والاقتصادي عوضاً عن دوره السلبي في المجتمع. وكما شهدت هذه الفترة هجرة القبطي بحثاً عن دوره إلى الكنيسة، ستشهد أيضاً ازدياد حركة هجرة الأقباط إلى الخارج، أوروبا وأستراليا، وبخاصة أميركا وكندا، ليظهر ما يعرف بأقباط المهجر، وفعالية التيار القبطي المتطرف بينهم.

تعريب الأقباط

وحتى في عهد جمال عبدالناصر، فإننا نلاحظ سلبية الدور السياسي للأقباط آنذاك، على رغم ندرة حوادث الفتنة الطائفية وقتها. ولما كانت أيديولوجية ذلك العصر هي القومية العربية، فإن من المفيد البحث عن موقف الأقباط من هذه الأيديولوجية.

من الثابت تاريخياً تعريب الأقباط لغوياً وثقافياً منذ القرن العاشر الميلادي، وهو التعريب الذي سيترك آثاراً جلية على كلٍ من الكنيسة القبطية والأقباط، ولا أدل على ذلك من قول الأنبا ساويرس بن المقفع في القرن العاشر الميلادي إلى أحد تلاميذه: «ذكرت يا حبيب أن القبط في هذا الزمان قد كثرت فيهم الأقاويل المختلفة في الإيمان الأرثوذكسي وأن الواحد منهم يرتأي بغير رأي الآخر ويكفّره، وأنك متعجب من ذلك ومحتار فلا تتعجب، فإن السبب في ذلك جهلهم بلغتهم، لأن اللغة العربية غلبت عليهم، فلم يبق أحد منهم يعرف ما يُقرأ عليه في الكنيسة باللغة القبطية».

وعندما سُئل البابا شنودة لماذا لم يسمح للأقباط بزيارة القدس بعد عقد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، أجاب بأنه لن يكون الأقباط خونة العرب، وسيدخل الأقباط القدس عندما يدخلها العرب.

الود المفقود

لكننا نرى أن ليس لدى الكثير من الأقباط شعور بالعروبة أو بالفكر القومي العربي، والإحساس الأول لدى بعض الأقباط هو القبطية ليس كديانة أو كمذهب ولكن كهوية أيضاً. وزاد الأمر حدة استثمار الرئيس أنور السادات التيار الإسلامي لضرب اليسار، ما أدى إلى تعاظم التيار الإسلامي، وفي المقابل تعاظم التيار الديني القبطي حتى وصل الأمر في نهاية عهد السادات إلى غياب مفهوم الدولة، حتى أصبح الشيخ متولي الشعراوي زعيم المسلمين، والبابا شنودة زعيم الأقباط.

وكانت النهاية الطبيعية لعهد السادات حوادث الفتنة الطائفية أواخر أيامه، ثم اعتقاله معظم الرموز الدينية والسياسية، واغتياله بعد ذلك على أيدي الجماعات الإسلامية.

لا أحبك ولا أقدر على بُعدك!

وتغيرت المعادلة في زمن الرئيس حسني مبارك، إذ تعلم البابا شنودة الدرس جيداً بعد سنوات أمضاها في العزلة القسرية في أحد أديرة وادي النطرون. وعندما عاد إلى البطريركية، لم يعد هو البابا الشاب مثلما كان الحال في بداية عصر السادات، وتغلبت واقعية الشيخوخة على صناعة القرار في الكنيسة.

وعلى الطرف الآخر وصل مبارك إلى الحكم عقب اغتيال السادات في العام 1981، ونجح في بداية عهده في تحقيق مقدار من الاستقرار كانت تحتاج إليه مصر. ولعب نظام مبارك بعد ذلك على الوتر الحساس «أنا أو الإسلام السياسي»، الاستقرار أم التطرف والإرهاب؟! وكان من الطبيعي في ظل ذلك أن تختار الكنيسة الولاء لمبارك ونظامه، وهو في الحقيقة ولاء على مضض، أو وفقاً للمثل المصري الشهير «لا أحبك ولا أقدر على بُعدك».

ولم يقدم نظام مبارك شيئاً، سواء في مسألة بناء الكنائس، أو نسبة الأقباط في الوظائف العامة، أو مقاعد البرلمان. وبينما كان يلعب على وتر الاستقرار لجذب تأييد الأقباط، وحتى الغرب، في مقولة «أنا أو الإخوان»! شهدت السنوات الأخيرة من عهده انهياراً واضحاً لحال الاستقرار المزعومة. وما يهمنا هنا هو وضع الأقباط، فقد تعددت حوادث الفتن الطائفية، وحُرق بعض الكنائس، وتم التقييد على ترميم الكنائس، هذا فضلاً عن أسلمة بعض البنات القبطيات على أيدي الجماعات الإسلامية. وهكذا وصلت العلاقة بين الأقباط ونظام مبارك إلى حال الصدام المباشر، وتبدى ذلك في خروج شباب الأقباط معترضين خارج أسوار الكنيسة للمرة الأولى، بل دخولهم في حال صدام مع الشرطة، مثلما حدث في أحداث كنيسة العمرانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، وفي مطلع كانون الثاني (يناير) 2011 انهار الاستقرار المزعوم تماماً مع حادث الانفجار الذي وقع في كنيسة القديسين في الإسكندرية قبيل ثورة 25 يناير.

البابا شنودة ونهاية عصر

وبينما كان البابا شنودة في أواخر أيامه يحاول تحقيق التهدئة بين الأقباط، ولا سيما الشباب منهم، وبين الدولة، كانت هناك ظاهرة جديدة تولد في الساحة القبطية، وهي خروج الشباب القبطي والتحامه بمثيله من الشباب المسلم، وهذا يفسر انخراط أعداد لا بأس بها من هؤلاء في ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث، وسقطت الحكمة السائدة التي سيطرت بها الكنيسة على حركة الأقباط «على ابن الطاعة تحل البركة». وكانت أصوات الاعتراض من بعض الشباب في آخر قداس أعياد حضره البابا شنودة قبل وفاته خير دليل على ذلك.

ولم يستشعر الشباب القبطي الأمان أثناء فترة حكم المجلس العسكري، لا سيما مع تسرب إشاعات غير حقيقية عن تحالف سري بين المجلس العسكري والإخوان. ولكن مع وصول الإخوان إلى الحكم، ومطالبة بعض القوى السلفية بفرض الجزية على الأقباط، استشعر الأقباط جميعاً الخطر، وعادوا إلى الحكمة القديمة: الدولة المصرية هي حصن الأمان لهم، والجيش هو المؤسسة ربما الوحيدة المتماسكة من مؤسسات الدولة. لذلك سيبحث الأقباط مثلهم مثل القوى المدنية وغالبية المصريين عن الأمان واستعادة تاريخ الدولة، وطلب الجميع نزول الجيش إلى الشارع وإطاحة حكم الإخوان، وهو ما حدث في ثورة 30 حزيران (يونيو) التي شارك فيها الأقباط بكثافة.

والآن عاد الأقباط إلى الوضع القديم: العيش في أمان في كنف الدولة المصرية، لكن لشباب الأقباط آراء أخرى، فلم يعد مقبولاً أن تكون الكنيسة هي الناطق الرسمي باسمهم، كما أن المشاكل العالقة والملفات المؤجلة أصبح من اللازم على الدولة معالجتها، فهل يحمل المستقبل القريب متغيرات مهمة في المسألة القبطية؟

* كاتب مصري