التاريخ: تشرين الأول ١٦, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
نحن وإيران.. النموذج وأزمة النموذج - فاطمة الصمادي
منذ اندلعت شرارة الربيع العربي، لم يتوقف أصحاب القراءة الإيرانية المغرقة في تعداد حسنات "تصدير النموذج الإيراني" عن ترويج مقولاتهم. وعلى الرغم من أن الساحة الإيرانية نفسها شهدت محاولاتٍ تفسيرية متباينة، للوقوف على أسباب هذا "الربيع" ومساراته، إلا أن التركيز جرى على قراءة واحدة دون سواها، فالمشهد العربي، الصاخب بكل تعقيداته، لا يعدو أن يكون "استلهاماً للتجربة الإيرانية". والملفت أن هذا التركيز تم بصورة ممنهجة، تشبه، إلى حد كبير، تسيير الحكومة لواحدة من المظاهرات الحاشدة التي تشهدها طهران، وحمل ما يشبه التوظيف القسري للأحداث السياسية، لإعادة تعداد "مزايا النموذج الإيراني"، وصلاحيته للمنطقة العربية.
 
تبدو هذه القراءة صلبة ظاهرياً، لكنها، في حقيقتها، حملت بعداً تجريدياً واضحاً، ومرت بمراحل متعددة، خضعت، بصورة واضحة، لمقتضيات المنفعة والمصلحة السياسية الإيرانية. وكانت تدخل مرحلة جديدة مع كل تطور تشهده المنطقة. وفي محطات معينة، لعل أبرزها دخول سورية ضمن دول الربيع العربي، والانقلاب العسكري الذي أطاح في مصر الرئيس محمد مرسي، اتسمت هذه القراءة بالتناقض، في صدام واضح مع الشعارات الكبرى للثورة الإسلامية في إيران.
 
وجدت إيران في الثورات العربية فرصةً، لتعيد طرح مفهوم الديمقراطية الدينية ونظريات الخميني في الحكم، و"الديمقراطية الدينية" التي تحدث عنها خامنئي رأى أنها "يمكن أن تملأ الفراغ مستقبلاً في المنطقة". كانت الثورات العربية، كما رأتها النخبة الحاكمة الإيرانية، مقدمة "صحوة إسلامية، وتحمل روحية الثورة الإسلامية الإيرانية". ولتبرير وجاهة هذا الطرح، يجري خامنئي عملية فرز ملفتة للإسلام المحمدي والإسلام الأميركي، من دون التفاتٍ إلى أن المعسكر الذي يحتكر "الإسلام المحمدي" بات "متورطاً" في صفقات سرية ومعلنة مع الطرف الأميركي الذي يرعى النوع الآخر من الإسلام.
 
كانت إيران، وهي تستقبل موجات "الربيع العربي" واحدة تلو الأخرى، تصر على ريادة نموذجها، ومع الانتكاسة التي شهدتها انتفاضات الشعوب العربية، ارتفع صوت الخطاب الإيراني مجدداً، للحديث عن "النموذج الرائد القابل للتكرار".
 
كانت الثورة السورية، وما تزال، تشكل مأزقا أخلاقيا كبيراً للنموذج الإيراني، وهي الثورة التي انطلقت سلمية، فالثورات العربية التي كانت توصف بأنها من "الألطاف الإلهية"، تحولت في الخطاب الإيراني إلى "مؤامرة"، وفي قراءة مخففة هي "فتنة". وكانت هذه المصطلحات هي ذاتها التي وصِم بها زعماء المعارضة الإيرانية الخاضعون للإقامة الجبرية إلى اليوم.
 
إن أي نموذج يسعى أصحابه إلى ترويجه يجب أن يضمن الاختلاف وحق النقد والاعتراض، ويحفظ حقوق الأقليات، وتجري فيه انتخابات نزيهة وعادلة. فهل يحقق النموذج الإيراني هذه الشروط؟
 
داخل هذه النموذج الذي يبشر به محللون وساسة إيرانيون، اليوم، يتعالى النقد داخل إيران نفسها بشأن الحريات عموماً، وحرية التعبير خصوصاً، وما زالت إيران تعاني من تبعات الحالة الأمنية التي سادت عقب مظاهرات 2009.

داخل النموذج الذي تسعى إيران، اليوم، إلى تقديمه وصفة سحرية لمشكلات العالم العربي، لم يستطع رفيق الخميني وشريكه في الثورة، آية الله هاشمي رفسنجاني، أن يترشح لانتخابات الرئاسة، واتهم المؤسسة الأمنية الإيرانية، صراحةً، بأنها تدخلت لمنع ترشيحه. وداخل هذا "النموذج"، أيضاً، يتعرض مفكر ورئيس سابق لإيران، هو محمد خاتمي، للمنع من السفر، ويحظر ظهوره في وسائل الإعلام الرسمية. وتطالب فئات واسعة، اليوم، بتدوين منشور لحقوق المواطنة، ينهي التجاهل الذي مارسته الحكومات الإيرانية المتعاقبة للتنوع العرقي واللغوي في إيران.
 
وعلى الرغم من العلاقات التاريخية المميزة بين الجانبين، لم تأت ردود فعل الإسلاميين، في مصر وتونس ودول أخرى، بما يرضي "غرور النموذج الإيراني". وسريعاً، كان راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية يعبر، صراحة، عن قصور النموذج الإيراني عن الوفاء بحاجات المجتمعات العربية، وهو رأي يشاركه فيه كثيرون من منظري الحركة الإسلامية وقادتها على امتداد الوطن العربي، ومن أبرزهم السوداني حسن الترابي، والذي كان مما يؤخذ عليه، وعلى الحركة الإسلامية في السودان، "الافتتان بالنموذج الإيراني"، لكنهما باتا يعبران عن قناعة واضحة بعدم ملاءمة هذا النموذج للمجتمعات العربية.
 
ومع القمع والإقصاء الذي تعرضت له حركة الإخوان المسلمين على يد الأنظمة العربية، باتت الساحة العربية خالية، بالكامل، مما يمكن أن نطلق عليه مشروعاً، والحقيقة التي لا يريد خصوم الإخوان الاعتراف بها أنهم، لا سواهم، من يمتلك القدرة والإمكانية لـ"ترشيد" فائض القوة الإيراني و"عقلنته" تجاه المنطقة العربية، فمواجهة ذلك لا يكون إلا بمشروع سياسي، وكتلة سياسية، تحظى بقاعدة شعبية وامتداد جغرافي. وأيا يكن الموقف من فكر الجماعة وأدائها السياسي، إلا أن الحقيقة والواقع أنهم الفئة السياسية الوحيدة التي تمتلك هذه المقومات. ويحتاج القيام بذلك إلى إقرار واعتراف بدورهم ومكانتهم من النظام السياسي العربي، فضلاً عن وقف حملات الإقصاء التي ترعاها الأنظمة، سراً وعلناً، ويحتاج، أيضاً، إلى مراجعات جريئة وعاجلة من "الإخوان" لأدائهم، فقد آن الوقت ليصغوا إلى النقد، ويعترفوا بأخطائهم ومواطن تقصيرهم. وتحتاج منهم، أيضاً، أن يعكفوا على تدوين مشروع أصيل غير مستلهم من تركيا أو إيران، وتقدم بديلا للشباب الذي بات ينخرط في صفوف "داعش" وغيرها من التنظيمات المتطرفة. ولعل هذا هو الدور التاريخي المطلوب من الحركة الإسلامية اليوم. وإذا نجح المسار التونسي، وواصل إسلاميو تونس، أداءهم الواعي والواقعي، فالفرصة ستكون متاحة بشكل أكبر لأداء هذا الدور.
 
نعم، تمر المنطقة العربية بمخاضات عسيرة ودموية، لكن الخروج من مشكلاتها لن يكون عبر بوابة "النموذج الإيراني" أو "النموذج التركي". مرة أخرى: تمتلك الحركة الإسلامية العربية، لا سواها، مفاتيح الحل.

فاطمة الصمادي باحثة مختصة بالشأن الإيراني في مركز الجزيرة للدراسات، حاصلة على الدكتوراه من إيران عن رسالتها حول المضامين النسوية في سينما المرأة الإيرانية. لديها كتب وأبحاث من أبرزها "التيارات السياسية في إيران".