التاريخ: تشرين الأول ١٦, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الحاجة إلى «تحالف راغبين» في أوروبا للاعتراف بفلسطين - يزيد صايغ
خلال كلمته أمام مؤتمر الجهات الدولية المانحة لإعادة إعمار غزة في 12 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، أكّد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على ضرورة الحيلولة دون أن تتحوّل «دورة البناء والتدمير» إلى أحد الطقوس، من خلال معالجة الأسباب الجذرية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. فقد كانت حرب الصيف الماضي الأكثر دموية من بين ثلاث موجات كبيرة من العنف عانى منها سكان غزة الذين يبلغ عددهم 1.8 مليون، كانت أولها في كانون الأول (ديسمبر) 2008. ووافقه جون كيري وزير الخارجية الأميركي الرأي قائلاً إنه من دون التوصل إلى اتفاق سلام طويل الأمد، فإن إعادة بناء المنازل والبنية التحتية في غزة ستكون مثل «الضمّادة»، أي حلاً موقتاً.

يبدو هذا صحيحاً تماماً. بيد أن القادة الفلسطينيين محقّون أيضاً في التحذير من استئناف عملية السلام الحالية من دون تصحيح أوجه القصور التي تعتريها، كما ألحّ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 أيلول (سبتمبر) الماضي. وكرّر رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض هذا الرأي في مقال نشره مؤخراً، قائلاً إن مجرّد «النقر على زر إعادة تحريك عملية السلام المتعثّرة» ليس سوى تكرار لإخفاقات الماضي. واقترح الفلسطينيون، بدل ذلك، أن تُجرى أي مفاوضات جديدة بين دولة فلسطين، المعترف بها من الهيئات الدولية، وإسرائيل بهدف وضع اللمسات الأخيرة على حدود الدولتين، وأنه ينبغي أن تتم المحادثات ضمن إطار معدّل استناداً إلى مبادرة السلام العربية لعام 2002، وأن تنتهي ضمن مهلة محدّدة مقرّرة دولياً.

لا تبدو هذه المقترحات متطرّفة، لأنها لا تزال تركّز على تحقيق الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي بين دولتين تتمتّعان بالسيادة ضمن المعايير التي أقرّها المجتمع الدولي منذ عام 1993. بيد أن الواضح أن الفلسطينيين لا يملكون القدرة اللازمة لإعادة هيكلة عملية السلام، ولا إعادة تكليف الأمم المتحدة بالإشراف عليها بدلاً من الولايات المتحدة. وقد كرّر المسؤولون الأميركيون بالفعل المقولة الأساسية التي رفعوها طيلة السنوات الإحدى والعشرين الماضية والتي تؤكد أن الولايات المتحدة «ستساعد في تسهيل مفاوضات ناجحة إذا كانت الأطراف المعنيّة مستعدّة لاتّخاذ قرارات صعبة عند الضرورة للعودة إلى المحادثات». ولا ريب أن هذه وصفة أكيدة للجمود الفوري للمفاوضات، وضمان ألا يكون أحدث مؤتمر لإعادة إعمار غزة هو الأخير بالتأكيد، خلافاً لآمال بان كي مون المعلنة.

هذه المرة يستطيع الأوروبيون أن يحدثوا فرقاً متواضعاً ولكن مفيداً. إذ ليس من الضروري أن يتبنّوا المقاربة الفلسطينية بمجملها، غير أن دعم محاولة زيادة وتيرة الاعتراف بدولة فلسطين يوفّر لهم وسيلة منخفضة الكلفة لبثّ الطاقة السياسية من جديد في عملية السلام من دون تحدّي المبادئ الأساسية للتوصّل إلى حلّ الدولتين من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين. وبالطبع لن تؤيّد كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هذه المقاربة، بيد أن ثمّة فرصة لقيام «تحالف الراغبين» في ما بينها لأخذ زمام المبادرة الديبلوماسية.

ثمّ إن هناك بالفعل سابقة للاتحاد الأوروبي في هذا المجال تتمثّل في بيان المجلس الأوروبي في برلين الصادر في آذار (مارس) 1999، والذي عبّر عن الاعتقاد بإمكانية التوصّل إلى معاهدة سلام نهائية «خلال سنة واحدة». والأهم من ذلك أن الاتحاد الأوروبي اعتبر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره «بما في ذلك خيار إقامة دولة» غير مشروط ولا «يخضع لأي فيتو» ولا يتوقّف على التوصّل إلى حلّ عن طريق التفاوض. وقد اختتم البيان بإعلان استعداد الاتحاد الأوروبي للنظر في الاعتراف بدولة فلسطينية في موعد لاحق وفقاً لهذه المبادئ الأساسية، من جانب واحد في الواقع، باعتباره حقاً سيادياً للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

أفضى مؤتمر القاهرة الأخير إلى جعل هذه المسألة في غاية الوضوح. فقد قدمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بصورة جماعية، مساعدات للسلطة الفلسطينية تفوق ما قدمته أي جهة مانحة أخرى منذ عام 1994، وتعهّدت الآن بتقديم 568 مليون دولار إضافية لإعادة إعمار غزة. وكان الاتحاد الأوروبي فعل ذلك من قبل، حيث كثّف مساعداته لإعادة بناء البنية التحتية التي تمت أصلاً بأموال أوروبية وجرى تدميرها خلال إعادة احتلال إسرائيل لمعظم مناطق الضفة الغربية في عام 2002، وتعهّد بتقديم مساعدات جديدة لإعادة إعمار غزة بعد «عملية الرصاص المصبوب» التي قامت بها إسرائيل بين كانون الأول (ديسمبر) 2008 وكانون الثاني (يناير) 2009. وفي هذه المرة كان ممثّلو الاتحاد الأوروبي في القاهرة صريحين في تردّدهم إزاء إعادة بناء ما يرجّح أن يتم هدمه مرة أخرى.

الاتحاد الأوروبي محقّ في التشكيك بالحكمة الكامنة في السير على الطريق نفسه مرة أخرى. بيد أن هذا الأمر يتطلّب استعداداً لتعديل الإطار الجامد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والذي حشرت فيه «عملية السلام» – على علاتها - لأكثر من اثنتي عشرة سنة. والواقع أن الأوروبيين قد حشروا على نحو مماثل. ففي عام 2002، شكّل الأوروبيون اللجنة الرباعية، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة، للإشراف على عملية السلام، غير أن اللجنة أصبحت في الواقع وسيلة للتنازل عن القيادة الدبلوماسية برمّتها للولايات المتحدة. كانت النتيجة إفراغ «خريطة الطريق» التي أصدرتها اللجنة الرباعية من مضمونها حتى قبل نشرها في 30 نيسان (أبريل) 2003. فقد فوّضت النسخة الأصلية من الوثيقة اللجنة الرباعية بإنشاء آلية مراقبة للتحقّق من تنفيذ الفلسطينيين والإسرائيليين لالتزاماتهم المتبادلة. ولكن عندما نشرت الولايات المتحدة النصّ الرسمي لخريطة الطريق، حذفت هذا البند إذعاناً للضغوط الإسرائيلية، من دون إجراء مشاورات مسبقة مع الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن شركائها الآخرين في اللجنة الرباعية.

كان الإذعان الأوروبي لنزعة التفرد الأميركية خاطئاً وقد كلّف عملية السلام ثمناً باهظاً. والآن ثمّة فرصة أمام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتغيير نقطة البداية لمحادثات سلام جديدة، من خلال الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، الأمر الذي قامت به أغلبية المجتمع الدولي بالفعل. ومن الواضح أن هذا يعني التباين والاختلاف في الرأي عن الولايات المتحدة، بيد أن ما هو على المحكّ هنا ليس ثورياً. كما أن إظهار درجة متواضعة من الاستقلالية الأوروبية لا يعني تجاوز الافتراض الأساسي في ضرورة أن يتفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون، بل يكسر الجمود الديبلوماسي الحالي، ويخفّف من العبء الثقيل للسياسة الأميركية في شأن عملية السلام.

ثمّة احتمال ضئيل في أن يتّخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً يعترف بفلسطين بالإجماع، نظراً للفيتو الألماني على وجه الخصوص. غير أن الدول الأعضاء الرئيسة يمكنها أن تسهم في حدوث تحوّل في شأن هذه المسألة عن طريق لعب دور قيادي في توسيع نطاق الاعتراف الثنائي بفلسطين بصرف النظر عن بقية الأعضاء. فقد أظهرت السويد مؤخراً، والتي أصبحت أول دولة في الاتحاد الأوروبي تعترف بفلسطين منذ تصويت أكثرية الجمعية العامة للأمم المتحدة تأييداً لذلك في عام 2012، أن بوسع الحكومات الأوروبية، كل على حدة، أن تؤيّد بسهولة الخيار الفلسطيني المتمثّل باستراتيجية سلمية تقوم على الديبلوماسية الجماعية من خلال إطار الأمم المتحدة مع التأكيد مجدّداً على المتطلّبات الأساسية لتحقيق سلام عادل ودائم.

ولعل التحدّي الآن يتمثّل في أن تحذو الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي حذو السويد. وثمّة عبء خاص يقع على كاهل بريطانيا كي تلعب دوراً قيادياً وحاسماً في هذا الشأن، نظراً لدورها التاريخي في خلق مشكلة فلسطين ولادعائها القيام بدور عالمي قيادي وعلاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة. فقد قال وزير شؤون التنمية الدولية البريطانية دزموند سوين متحدثاً في مؤتمر القاهرة للدول المانحة: «يجب أن تكون هذه آخر مرة نعيد فيها إعمار غزة... ومن الضروري أن تشكّل جهود إعادة الإعمار الآن جزءاً من عملية تغيير سياسي مجدية». ولكن ينبغي أن يكون هذا أكثر من مجرّد خطاب وعظي. فبريطانيا، جنباً إلى جنب مع الدول الأعضاء الأخرى الراغبة في الاتحاد الأوروبي، في وضع يمكّنها من استخدام الأمم المتحدة باعتبارها منبراً لتعديل نقطة الانطلاق السياسية لاستئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، من دون نقل هذه المفاوضات إلى الأمم المتحدة. ويدل القرار الأخير غير الملزم لمجلس العموم البريطاني والذي يطالَب بالاعتراف بفلسطين على زيادة الضغوط على الحكومة البريطانية لتنحو بهذا الاتجاه وتلعب دوراً قيادياً بالفعل.

لقد وصف مسؤول أوروبي كبير في القدس، في حديث خاص في أوائل عام 2010، مساعدات الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين باعتبارها وسيلة لـ «الحفاظ على وهم عملية السلام» بغية الإبقاء على آمال الفلسطينيين حيّة. واليوم تبشّر الجولة الجديدة من إعادة الإعمار في غزة بفضح الوهم وتبديده على نحو يتجاوز إمكانية استعادة العملية السلمية. وإذا كانت الحكومات الأوروبية ترغب حقاً في إحياء عملية سلام قابلة للحياة، فإن عليها إظهار بعض الاستقلال السياسي، بصورة جماعية عندما تستطيع وبصورة فردية عندما يتوجّب عليها ذلك. إذ يمثّل تشجيع ومساعدة الفلسطينيين على العمل من خلال منظومة الأمم المتحدة وسيلة بنّاءة للقيام بذلك. وإذا كانت أوروبا عاجزة حتى عن القيام بهذا، فعليها التوقّف عن التصنّع، لأن فعل القليل يضرّ أكثر بصدقيّتها وبآفاق التوصّل إلى حلّ سلمي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.


* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت.