تفاخرَ النائب عن مدينة طهران علي رضا زاكاني في البرلمان الايراني بأن بلاده تسيطر الآن على اربع عواصم عربية هي: صنعاء وبيروت ودمشق وبغداد. زاكاني وكما تقول تقارير إخبارية مقرب من المرشد العام للثورة الايرانية آية الله خامنئي. وهذا الاخير وجّه بدوره رسالة من يومين إلى حجيج هذا العام فرّق لهم فيها بين اسلامين: الاسلام المحمدي، والاسلام الاميركي. الاول هو طبعاً اسلام ايران، والثاني هو اسلام العرب. لم يفسر الآية العظمى كيف تحالف الاسلام المحمدي مع اميركا في العراق ضد صدام حسين، وكيف تحالف معها في افغانستان في حربها ضد «طالبان»، وكيف تقاطعت مصالحهما معاً في سورية وفي اكثر من مكان وزمان. لكن ليس هذا موضوع هذه السطور.
كما ان جمع الأدلة والمؤشرات على النفوذ الايراني ومحاولة إثبات وجود مشروع فارسي توسعي باتجاه المنطقة العربية لم يعد جهداً ذا معنى، فكل ذلك اصبح تحت الشمس وينتقل من مرحلة الى أخرى من دون خجل او تبرير. التدخل الايراني في الشأن العربي يدمر الآن اربعة بلدان عربية، ويتسبب في تجزئتها وتحطيم كياناتها، وتمزيقها طائفياً. والرئيس الايراني (المعتدل!) روحاني يصف ومن دون ان يجامل احداً آخر حلقات هذا التدمير في اليمن بأنه انتصار باهر للثورة الايرانية. وتُضاف إلى ذلك سلسلة تصريحات رسمية ايرانية تقدر أن ميزان القوى في المنطقة والتغيرات الحادثة فيها تصب في مصلحة طهران، وأن نفوذها يمتد الآن الى شرق المتوسط.
والمطلوب والملحّ اذاً هو وقف النفوذ الايراني في المنطقة العربية ودولها وهذا يجب ان يأخذ اولوية قصوى، لأن التساهل إزاءه يعني توالي سقوط عواصم عربية اخرى تحت السيطرة الايرانية. واذا تم الوعي بهذه الاولوية القصوى، فإن ذلك يجب ان يعني دفع تلك الاولوية إلى رأس الاهتمامات وضرورة ان تتجاوز الكثير من الاولويات والاجندات التي لا تستحق فعلاً ان تأخذ المكانة الرئيسة التي احتلتها في السنوات الثلاث الماضية. إن ما يحدث في المنطقة منذ عام 2003 على الاقل وإسقاط صدام حسين يصب في مصلحة ايران، وكأن تدخل الولايات المتحدة وقوى التحالف الغربي في حروبها المستمرة في المنطقة لا يقوم إلا بتقديم الخدمة تلو الاخرى للنفوذ الايراني. وما يحدث حالياً من حرب ضد تنظيم «داعش» في العراق وسورية سينتج منه تطهير وتجهيز فضاءات جديدة للنفوذ الايراني: اي ان اميركا تزرع وإيران تحصد!
والذين يقللون من خطر المشروع الايراني في المنطقة او يعتقدون أن بلدانهم تقع خارج دائرة اخطار ذلك المشروع، فإن عليهم ان يرجعوا الى ابجديات تفاقم اي خطر وجودي والتهامه ضحاياه تباعاً. ولا بأس هنا في التذكير الممل بقصة ابن المقفع المدرسية «انما أكلت يوم أكل الثور الابيض» والتي على رغم بلاغتها المشهودة يرفض الوعي السياسي العربي الجمعي ان يتعقلها. لو كانت العواصم العربية والجامعة العربية تتمتع بالحد الأدنى من العافية السياسية والوعي بالاخطار الاقليمية الحقيقية، وليس المتخيلة، التي تتهدد العرب وكياناتهم في المشرق لتمت الدعوة إلى قمة عربية طارئة لمناقشة التفاخر الايراني، وبناء استراتيجية موحدة وحقيقية لمواجهة المشروع الفارسي. على كل حال ليس الامر كما نشتهي والوضع العربي مفكك الى ابعد حالات التفكك وتعصف به الخلافات، لذا علينا ان نفكر ضمن اطار الممكن السياسي وهو ما تحاوله هذه المقاربة، وبالإيجاز الذي تفرضه المساحة المُتاحة هنا.
على مستوى الصورة الاقليمية العامة وفي قلب ما يمكن القيام به تأتي ضرورة إنهاء الوضع الراهن المنقسم على ذاته عربياً وإقليمياً، وبناء موقف عربي موحد قائم على الوعي بخطر المشروع الايراني. ويجب البدء بدول مجلس التعاون الخليجي. فدول الخليج ومن خلال مجلس التعاون بقيت هي المنظومة الاقليمية الوحيدة شبه المتماسكة في النظام العربي، ويجب منع تفككها، وإيلاء الحفاظ على مجلس التعاون اولوية قصوى، على رغم عيوبه الكثيرة وعدم تحقيقه آمال الكثيرين. والمعنى العملي والمباشر لذلك هو إنهاء الخلاف مع قطر وعودة سفراء الدول الثلاث الى الدوحة اولاً، ثم تعميق التنسيق السياسي والاستراتيجي والمواقفي إزاء الخطر الايراني ثانياً. فسقوط صنعاء في دائرة النفوذ الايراني يجب ان يقض مضاجع صناع القرار في الخليج ويدفعهم الى إعادة ترتيب اولوياتهم وإرجاء خلافاتهم الداخلية الثانوية. ينبني على ذلك إنهاء الخلاف والتوتر المصري - القطري لأن مصر ودول الخليج هي الآن القاعدة الأهم التي يمكن الارتكاز عليها في مواجهة اية اطماع اقليمية.
ترتبط اعادة ترتيب البيت الخليجي والعربي بـ «المعركة الاقليمية» التي انخرطت فيها دول عربية عدة ضد «الاخوان المسلمين» وتنظيمات الاسلام السياسي التي تشارك في التغيرات السياسية والديموقراطية في بلدانها، وهي معركة في غير مكانها، زماناً ومكاناً وأطرافاً. وهي معركة تستنزف هذه البلدان وتهلك البنية الداخلية فيها والتي من المفترض ان تعمل على تقويتها لمقاومة ومجابهة الخطر الاهم والاكبر وهو النفوذ الايراني. ليس المقصود هنا الدفاع عن «الاخوان المسلمين» وسياساتهم وتنظيماتهم، وكاتب هذه السطور يؤمن بشكل عميق بأن اي خلط للدين مع السياسة يدمر الإثنين معاً، لكن المقصود هو تقدير الاخطار الحقيقية الاقليمية وأين يجب صرف الجهد الفعلي وتكريسه.
تشكيلات الإسلام السياسي المشاركة في السياق السياسي والديموقراطي في عدد من البلدان العربية قد تشكل تهديداً لبعض الانظمة والحكومات، لكنها لا تشكل تهديداً وجودياً للبلدان نفسها، بينما المشروع الايراني يشكل تهديداً عارماً للدول والحكومات والشعوب. فضلاً عن ذلك، فإن حركات الاسلام السياسي لا تهزمها إلا الشعوب وصناديق الانتخابات التي جاءت بها، وعلى قاعدة فشلها المتراكم في تقديم نموذج ناجح في السياسة والحكم كما تدل معظم إن لم نقل كل التجارب المشهودة حتى الآن (من السودان الى مصر الى غزة الى افغانستان... الخ). اي ان الحكم الحقيقي يأتي من الشعب نفسه وكانت كل المؤشرات والاستبيانات تشير، مثلاً، الى عدم إمكانية فوز «الاخوان المسلمين» في الانتخابات المصرية بعد سنة واحدة من حكم محمد مرسي، ولم تكن هناك حاجة الى كل ما حدث في مصر. والتركيز الموسع على هذه النقطة هنا يأتي لأن مسألة العلاقة مع الاسلاميين وأحزابهم تشكل تحدياً كبيراً إزاء صوغ اية استراتيجية عربية حقيقية وفعالة لوقف الخطر الايراني. ففي نهاية المطاف لا تقف تلك الاحزاب في معظمها، إن لم يكن كلها، في المربع الايراني بل في الجانب الآخر. والحديث عن تحالف ايراني - «اخواني» لا علاقة له بالواقع، بل هو جزء من الاتهامات والنكاية السياسية.
وفي جانب الاسلاميين وبخاصة جماعة «الاخوان المسلمين» وحركاتها وتنظيماتها، فإن هناك ضرورة ملحّة وعاجلة للانخراط في مراجعات فكرية وسياسية عميقة، تقدم مصالح الاوطان على المصلحة الحزبية، وتقدم اولوية التوافق الوطني على الانفراد بالرأي والحكم. والمثال التونسي الذي قدمته حركة «النهضة» يجب ان يكون هو البوصلة التي ترشد هذه الحركات والاحزاب، بخاصة ان تجربتها في السياسة والحكم قصيرة وقد تكون نتائجها مدمرة. وعلى رأس المراجعات المطلوبة مسألة البعد غير الوطني لهذه الاحزاب وعلاقاتها «ما فوق الدولتية»، اي ان انتماءاتها الى الايديولوجيا والجماعة الام تتقدم على انتماءاتها الى اوطانها بما يكرس مخاوف أو شكوك الاطراف الوطنية بها. والحل الامثل هنا هو إلغاء اي شكل من أشكال «التنظيم الدولي»، بل وشطب اسم «الاخوان المسلمين» وإعادة تشكيل احزاب وجمعيات وطنية بحتة حتى لو كانت بخلفية اسلامية او «اخوانية»، لكن هذه المرة تكون مرجعيتها وطنية وداخلية وليست خارجية. وقد يكون تفكيك البعد الدولي لـ «الإخوان المسلمين» مضافاً إليه النبذ الكلي للعنف وانضواء كل حركة سياسية اعادت تشكيل نفسها ضمن السياق الوطني جزءاً من التفاهمات الاقليمية مع «الاخوان المسلمين» وعلى قاعدة اطلاق مصالحة عربية شاملة، سواء أكانت هذه العناصر مُتوافقاً عليها ام غير ذلك، فإن الاهم هو الفكرة الرئيسة والعامة وهي ضرورة اطلاق مشروع مصالحة عامة يؤدي الى صوغ استراتيجية دفاعية ضد النفوذ والمشروع الايراني المتسارع، وإلا فإننا سنترحم جميعاً على الثور الابيض ونعض اصابع الندم على التفريط بحياته قبل ان نلحق به! |