التاريخ: تشرين الأول ١١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
من أي رحم سياسي وُلد "داعش"؟ - سليم نصار
عندما ألقى الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كلمته أمام البرلمان، لمناسبة إفتتاح السنة التشريعية، نفى وجود أي رغبة لديه بالتدخل في شؤون الدول العربية المتاخمة.
شدد اردوغان في كلمته على ضرورة عودة مليون ونصف المليون نازح من سوريا والعراق، فيما إكتفت الدول الاوروبية باستقبال مئة وثلاثين ألف نازح سوري فقط.

واعترف اردوغان بأن الدولة التركية صرفت عليهم أكثر من أربعة مليارات دولار، وأن هذا الرقم مرشح للازدياد في حال وصلت موجة جديدة من جراء المعارك الدائرة ضد "داعش".

التوقعات التي حذر اردوغان من تداعياتها، تحققت عقب إنفجار معارك الشوارع في مدينة كوباني (عين العرب) بين الأكراد ومقاتلي تنظيم "داعش". وكانت النتيجة لجوء أكثر من مئة وأربعين ألف كردي الى تركيا خلال أسبوع واحد. وقد إستقبلها رئيس الوزراء أحمد داود اوغلو بصيحات الغضب، معتبراً أن موجات النزوح الى بلاده تشكل تهديداً لسلامة الأمن القومي.

ويرى اوغلو أن مصلحة بلاده تقضي بأن تنضم الى التحالف الدولي لكي تبقى في حدود التأثير على مستقبل سوريا والعراق بعد القضاء على "داعش". لذلك فهي تطالب بمنطقة حظر جوي آمنة داخل الأراضي السورية.

ولكن إدارة اوباما تتخوف من طموحات اردوغان الذي يؤمن بأن النصر ضد "داعش" من الصعب تحقيقه إذا بقي الأسد في الحكم. وهو يستند في توقعاته الى قرائن تاريخية تؤكد أن الامبراطورية العثمانية كانت تستخدم سوريا كقاعدة لترويض الدول العربية المتاخمة. وبما أن الرئيس التركي طامح الى إحياء ذلك الدور، الذي تتقاسمه ايران مع منظمات المعارضة، فهو عازم على غزو سوريا.

ومع أن إدارة الرئيس اوباما تشاطره الرأي في ضرورة إنهاء حكم الأسد، إلا أنها تفضل تنفيذ هذه الخطة عبر المعارضة السورية المعتدلة... لا عبر تركيا. والسبب أن القبول بهذا الخيار سيشجع ايران على احتلال العراق، الأمر الذي يفتح "صندوق بندورا" على مختلف الاحتمالات.

وقد أثبتت الأحداث أن التحرك ضد الأسد يترتب عليه الخلاف مع موسكو وطهران وبغداد. خصوصاً أن هذه القوى الداعمة لنظام دمشق هي أيضاً شجعت الحرب على "الدولة الاسلامية".

من أجل التوصل الى تسوية سلمية في سوريا، عُرِضَت على الرئيس اوباما إقتراحات عدة صعبة التنفيذ: الاقتراح الأول قدمه وزير الخارجية جون كيري، وهو يميل الى قلب موازين القوى العسكرية بحيث يُضطر جنرالات سوريا وأبناء عشيرته العلوية، الى المفاضلة بين المساومة على رحيل الأسد... أو مواجهة الدمار الشامل.

أما الاقتراح الثاني، الذي قدمه البروفسور هنري باركي، فيقول بأهمية إبرام هدنة بين رموز النظام السوري والمعارضة المعتدلة، بحيث تنتهي باستبعاد الأسد مقابل الحفاظ على نظام البعث.

والثابت أن الاقتراحَيْن لم يخدما فكرة اوباما الذي يرى في نظام الأسد مصدراً لتغذية مقاومة الوجود الاميركي في العراق... ومحرضاً لدعم "القاعدة" وأنصارها من أمثال أبو مصعب الزرقاوي وتلميذه أبو بكر البغدادي.

يقول مراقبون اميركيون أرسلتهم واشنطن الى تركيا الأسبوع الماضي، إن معركة "كوباني" عبَّدت الطريق أمام مقاتلي "داعش"، وسهلت لهم عملية نشر نفوذهم على المناطق الواقعة بين العراق وتركيا، وفي مناطق بالغة الأهمية لأنها تؤمن لـ"الدولة الاسلامية" فرص التحكم بطرق التموين والامدادات والنقاط الحيوية للموارد النفطية.

ويعترف قادة الأكراد بأن "كوباني" تمثل لهم ما كانت تمثله ستالينغراد بالنسبة للروس خلال الحرب العالمية الثانية... أي خط الدفاع الأخير. لذلك يتفانون في الدفاع عنها، ويطالبون دول التحالف بضرورة مضاعفة الهجمات الجوية، ولو أدت الى تهديم منازلها. وقد ساءهم مشهد الراية السوداء مرفوعة فوق أكبر عمارات مدينتهم. لذلك قرروا عدم التراجع عن مواصلة القتال بهدف إسترجاعها.

الصحف الغربية غير متفائلة بجدوى هذا القرار الذي يحمِّل الأكراد مسؤولية حرب قد تدوم عشر سنوات. وقد إحتاجت الولايات المتحدة الى هذه المدة قبل أن تقوِّض نفوذ "القاعدة".

والمؤسف في هذا المجال أن المعركة الاعلامية التي خسرها "داعش" بسبب سكاكينه الطويلة، بدأ يستعيدها بفضل حملات التبرير التي تقودها أقلام معارضة للسلوك الاميركي ضد العرب.
الدكتور مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق، دشن هذه الحملة بانتقاد القائلين إن "داعش" هو نتاج نظرية صدام الحضارات.
وقال في بداية مقالته الطويلة إن الرأي العام البريطاني أصيب بالرعب، جراء عملية قطع رأس مواطن مسالم.

وإعترف بأنه هو شخصياً أصيب بالرعب والخوف لأن الاسلام، حسب خبرته ومعرفته، لا يبشر بالعنف ولا يحبذ الارهاب. والقرآن الكريم يؤكد ذلك في الآية: "لا إكراه في الدين".
ولكن الوقائع تثبت أن هناك أعمال عنف يرتكبها مسلمون. بل أن هناك مجاهدين هاجروا من بلدان غربية لينضموا الى منظمات ثورية تحارب الدول التي تستضيفهم.
وبعد طرح السؤال المحيِّر: لماذا يفعلون ذلك؟

يجيب مهاتير بالقول: منذ فترة وجيزة إرتكبت اسرائيل ضد مواطنين مسلمين (ومسيحيين) مجازر جماعية ذهب ضحيتها أطفال وعجزة وأبرياء.

هذه الفظائع لم تحرك شفقة الاوروبيين والاميركيين. بالعكس، فقد وهبت الولايات المتحدة ربيبتها اسرائيل المال والسلاح، بحيث زادت من عمليات تدمير المنازل وطرد السكان.

وبعد إستعراض سلسلة المظالم التي جرت بحق الفلسطينيين، ينتقل مهاتير الى العراق ليتحدث عن الكذبة "المفبركة" التي بررت غزو الاميركيين لذلك البلد العربي. ثم ينتقل الى إستحضار معارك البوسنة، وكيف حصدت في النهاية 12 ألف مسلم.

وفي نهاية المقالة، يخلص الرئيس مهاتير الى محصلة إنسانية، مفادها أن العدالة والانصاف واحترام مشاعر الشعوب ودياناتها ومعتقداتها ومقدساتها... هي وحدها الحل الذي يلغي "داعش" وأمثاله، وهي وحدها السكين التي تقطع رأس الارهاب والعنف في العالم العربي والاسلامي.
هذا الأسبوع، كرر الممثل الاميركي، بن افليك، نظرية العلاقة بين الارهاب وإنتفاء العدالة، أثناء جدل محتدم بينه وبين الفيلسوف سام هاريس، في برنامج تلفزيوني.

ولما إنتقد سام الاسلام تصدّى له بطل فيلم "أرغو" بالقول: "هناك مليار شخص مسلم، ليسوا متطرفين، ولا يسيئون للمرأة، ويحرصون على تحصيل العلم في المدارس. هؤلاء وأمثالهم لا يمارسون الأعمال التي تدعي أن المسلمين يمارسونها. لقد قتلنا من المسلمين (يعني المسيحيين) أكثر مما قتلوا من صفوفنا بفارق كبير".

هذا، وقد أثار ذلك الجدل موجة من ردود الفعل، تفاوتت بين التأييد والانتقاد. ولكن تفاعلاتها تركت أثراً كبيراً على مجتمع درج على تصنيف البشر بين شيطان وملاك. وكان من حصيلة النقاش الحاد الذي طرحه الممثل، عبرة تقول إنه لا يجوز أخذ المسلمين كلهم بجريرة فئة ضالة شاءت أن تدّعي الخلافة لتمرير مشاريعها السياسية.
وعليه، يجب إعادة النظر في أعمال المسلمين، وليس في الاسلام الذي يبشِّر بالتسامح وعدم الاكراه.

وفي رد المعلقين على طروحات مهاتير، فان المبررات التي قدمها للمنظمات الارهابية في العالمَيْن العربي والاسلامي، لا تحمل الأحكام التخفيفية على إعتبار أن خطأين لا يساويان صواباً.
ومعنى هذا أن الأخطاء المشينة التي إرتكبها مسيحيون بحق مسلمين، لا تعطي المسلمين الحق في الخروج على القوانين الدولية. كما لا تعطي "القاعدة" و"داعش" ومن لفّ لفهما، الحق في إستغلال الدين، واستثمار غضب الشعوب لتكرار جرائم المستعمِرين!

كاتب وصحافي لبناني