من جهة أولى، يدفع موت السياسة بكونها نشاطا تعدديا يستهدف الصالح العام ويلتزم حكم القانون ويمكن من التداول السلمى للحكم / السلطة بمصر بعيدا عن مسار تحول ديمقراطى وعن فرص تحديث مؤسسات وأجهزة الدولة فى إطار احترام حقوق وحريات المواطن ومن بينها الحق فى الحصول على المعلومة والتعبير الحر عن الرأى والرقابة الشعبية للحكام. من جهة ثانية، يجرد مجتمعنا من طاقة التحديث الحقيقية المرتبطة بالعلم والمعرفة وعقلانية النقاش العام وقبول التنوع بسبب الضعف البين فى النظم التعليمية وهيئات البحث العلمى، وكذلك بسبب الاختلال الشديد فى المؤسسات الدينية ووسائل الإعلام الناتج إما عن سيطرة السلطة التنفيذية المباشرة عليها أو عن الاستتباع غير المباشر لها عبر تحالفات «المصلحة» بين السلطة التنفيذية وبين قطاعات واسعة من النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية وقيادات المؤسسات الدينية وأصحاب رءوس الأموال المالكة لوسائل الإعلام الخاصة. إزاء هذين الأمرين، يتعين على الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية والحقوق والحريات والمتمسكة بأهليتنا كمصريات ومصريين للحياة فى دولة عادلة ومجتمع متقدم وإنسانى الانخراط الفورى فى مناقشة وصياغة وتنفيذ أفكار مبتكرة وغير تقليدية تستهدف أن تغرس فى واقعنا قيم التعددية وحكم القانون والتداول السلمى للسلطة وأولوية العلم والمعرفة والعقلانية والفكر والرأى الحر على الجهل والخرافة والتطرف والترويج للخوف من ممارسة الحرية ومن ثم للطاعة العمياء للحكام. أدرك جيدا أن المواجهة المستمرة لانتهاكات الحقوق والحريات، توثيقا وكشفا وسعيا لرفع المظالم، تسهم تدريجيا فى صناعة حالة شعبية تحتج على الظلم وترفض قبول مبرراته الواهية وتنتصر لضحاياه ويوما ما ستطالب بمساءلة ومحاسبة المتورطين فيه. أدرك جيدا أيضا أن الأوضاع المصرية الراهنة تضع الكثير من القيود على عمل الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية، وتفرض عليها عراقيل تتحول إلى تهديد مستتر بالقمع أو تطبيق لإجراءات قمعية. إلا أن المسئولية الأخلاقية والإنسانية وطبيعة الدور المجتمعى وكذلك تجنب الوقوع فى فخ «التسليم بالضعف» الذى تنصبه لها السلطوية، تلزم هذه الأصوات والمجموعات بتجاوز استراتيجيات رد الفعل اللحظى إلى تنفيذ أفكار من نوع آخر، وفى مساحات لا تتوهم حضور السياسة وقد أميتت أو تتصور دونكيشوتيا القدرة على هزيمة غول الرأى الواحد والصوت الواحد بتوظيف نفس وسائل الإعلام المسيطر عليها والمستتبعة من قبل السلطة التنفيذية. لماذا لا ندرس استخدام التكنولوجيا الحديثة فى مخاطبة الرأى العام بعيدا عن وسائل الإعلام التقليدية؟ فالمنصات الإلكترونية للمقالات وللكتب المسموعة يمكن استخدامها للتعريف بحقوق الإنسان والحريات ولطرح الخبرات المعاصرة للتحول الديمقراطى من خلال قراءة نصوص أو مقتطفات من نصوص مكتوبة، ويمكن استخدامها أيضا للتوعية ببرامج التعليم والبحث العلمى المتقدمة ونتائجها المفيدة للبشرية. لماذا لا نبحث فى إمكانية تأسيس «بيوت أهلية» للثقافة فى مناطق متنوعة وتطوير أنشطتها على نحو يمزج بين نشر العلم والمعرفة وقيم العقلانية وبين عرض الإبداع الفكرى والفنى على الناس وتشجيع المبدعين ومجتمعنا يهمش أغلبيتهم ودعم المبادرات الفنية الطوعية والكثير منها غير معلوم على الرغم من جودته؟ لماذا لا نشرع فى تكوين مراكز «أفكار» مهمتها المقاومة المستمرة لفخ التسليم بالضعف والابتكار فى مجالات الديمقراطية والحقوق والحريات كما يبتكر فى كل مجالات الحياة الأخرى؟
|