يتخوف البعض من أن الدخول العسكري الأميركي الكثيف والمفاجئ
على خط الصراعات العراقية والسورية سينتهي بـ"تدويل" الصدامات السنّية - الشيعية في ظل تقاسم المصالح
بين القوى الكبرى. ما يساعد على هذا التخوف ما سبق ان أشارت اليه صحيفة
"الموند" في أواخر آذار 2006، عندما أرسلت موفداً إلى بغداد لدراسة جوانب الوضع العراقي، خاصة احتمالات
الحرب الاهلية، فخلص الموفد الى ما يلي: "اكتشفت اميركا في العراق (وفي الشرق الاوسط الإسلامي) سلاحاً
أخطر من أسلحة الدمار الشامل: الحرب المذهبية داخل الاسلام، بين السنّة والشيعة". وهذا ممكن
بالطبع اذا لم يكن لدينا سياسة مضادة لهذا التوجه بحيث تمنع ذلك السيناريو. انطلاقاً من التجربة
الماضية، ففي عزّ الناصرية توحد السنة والشيعة وتدنت الخلافات بينهم اذا لم نقل انعدمت. وهذا للتأكيد
على دور سياسات الدولة "العلمانية" في إيصال الأمور الى ما هي عليه
الآن.
يعالج كتاب "عالم المعرفة(■)هذا الموضوع تحديداً معتمداً على
التوثيق الاكاديمي والمعرفة الميدانية.
وهو يكشف النزاع القائم بين الدولة
والمعارضة الاسلامية وتطور العلاقة بينهما وكيف تمت أسلمة المجتمع المصري كنموذج. خدمت الدولة العلمانية
هدف الإسلاميين عبر محاولات مسؤوليها استقطاب الدين المحافظ بهدف تطبيع الخطاب الاسلامي داخل المجتمع
وسعيهم الدؤوب الى استخدام تفسير سلفي (او رجعي) للتقليد الاسلامي داخل هذا المجتمع لمصلحتهم ولتمكين
حكمهم.
اما لماذا اللجوء الى الدين كركيزة لتمكين الدولة، فلأنه يعتبر جزءا
مهما من تكوين الهويات الجماعية ولذلك فهو يمنح قاعدة مهمة للتضامن الاجتماعي والحشد السياسي، كما أنه
يوفر ثانياً إطار عمل معنوي لتفسير السياسة الحديثة. وقد وجد المسؤولون في الدولة، ومعهم العاملون في
مجال السياسة ان التلاعب بتلك الهويات فيه فائدة لاعتقادهم أن التفسير المحافظ للدين يشكل أساساً لضمان
الشرعية الشعبية لحكمهم.
ان مثل هذا التأكيد على دور المسؤولين في الدولة
باعتبارهم متغيرا فاعلاً في إرساء الاسلام السياسي والنظرة الرجعية للاسلام يعد على النقيض من افتراضات
نظرية الحداثة التي تؤكد ان الدول (والحداثة) كانت علمانية الاصل وملتزمة برؤية معينة في التنمية؛
ولطالما تم التركيز على الحركات الاجتماعية والإيديولوجيات المصاحبة للمذاهب الاصولية الدينية لتفسير
صعود التطرف الاسلامي.
ذلك لا يعني بالطبع بأي حال من الاحوال التقليل من
اهمية الإيديولوجيات والحركات الدينية التي صاحبت المذاهب الاصولية. كما أنه لا يعني ايضا ان تلاعب
الدولة بالدين كان العامل الوحيد الذي ساهم في انبعاث الحركات السياسية الدينية، او ان المسؤولين في
الدولة هم الذين تسببوا في خلق المذاهب الاصولية بطريقة او بأخرى. جميع العوامل الاخرى التي يشار اليها
عادة مهمة ويمكن وضعها في الحسبان. المسألة هنا متعلقة بإظهار أهمية التوجه المتغير للمسؤولين في
الدولة، ومدى اهمية الافكار نفسها.
هكذا ينظر عادة لاغتيال السادات بحسب
التفسير التقليدي على انه تصفية زعيم علماني على يد متعصبين دينيين، ويبدو وكأنه يعكس الصراع ما بين
الجماعات الدينية المعارضة والنخب العلمانية في الدولة. لكن الحقيقة أكثر دقة من هذه الرواية؛ فالسياسات
التي اتبعها السادات، بعيدة كل البعد عن ان تكون علمانية، حيث قام في فترة حكمه بتشجيع نشط للأصولية
الاسلامية من خلال مؤسسات الدولة الحديثة. قام بتوسيع التعليم الديني على نحو كبير، وعمل على زيادة
البرامج الاسلامية التي تُعرض في التلفزيون المملوك من الدولة، بالإضافة الى بناء المساجد مستعينا
بالتمويل الحكومي. كما تعاون ايضا مع جماعة الاخوان المسلمين وسعى جاهدا الى
استقطابها.
كان الهدف من هذه السياسات توفير أساس جديد للسلطة لمصلحة نظام
الحكم، أساس متأصل في التقليد الديني، وليس القومية العربية (او العلمانية) التي اتبعها جمال عبد
الناصر. كما هدف من ناحية أخرى الى توفير توازن ضد التأثير المستمر لليسار العلماني داخل السياسة
المصرية. ان التمسك بالمعتقدات والمبادئ الناصرية والشيوعية هو الذي كان يخشاه السادات، وليس
الاصوليين.
وعلى الرغم من ذلك، كانت قدرة نظام الحكم على السيطرة على القوى
التي أطلقت لها العنان محدودة. فعقب زيارة السادات الى القدس عام 1977 انقلب الاسلاميون على "الرئيس
المؤمن" وتم اغتياله.
بدا انجذاب السادات لهذا التوجه غير متوقع بالمرة لأن
النخب في الدولة كانوا الانصار الاوائل للرؤية العلمانية الخاصة بالتنمية القومية في منتصف القرن
العشرين، فقد اعترض حينها عبد الناصر بشدة على ذلك النوع من الإيديولوجيات الدينية الرجعية التي جرى
العمل بها في ما بعد خلال حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين؛ ما أدى الى جعل الدين مرتبطاً
بالسياسة. ومما يدعو الى السخرية ان النخب العلمانية هي التي تبنت هذه الرؤية الدينية للحياة الاجتماعية
الحديثة عن طيب خاطر.
يمكن التساؤل: كيف تمّ التعامي عن أن هذه السياسة هي
التي ساهمت في إنعاش الاسلام السياسي؟ حصل ذلك بسبب ممارسة السلطة المصرية حركتين متعارضتين في
التسعينات: من جهة اضطهدت الاسلاميين ومن جهة اخرى قمعت المفكرين العلمانيين. ففي مطلع التسعينات دخلت
اجهزة الامن المصري في صراع عنيف مع الجماعات الاسلامية المسلحة، وعلى مدار اعوام عديدة تم الزج بآلاف
النشطاء الاسلاميين – معتدلين ومجاهدين – في السجون او اعدامهم... كانت السياسات التي تبنتها الحكومة
مثيرة للجدل، حيث استخدمت اجهزة الامن التعذيب والاعتقال التعسفي غير القانوني وتصفية الافراد بهدف
القضاء على الاسلاميين الذين هددوا سيطرة مبارك. في هذه المرحلة خشيت الحكومات الغربية من السيطرة
الاصولية على الدولة وادارت وجهها عن انتهاكات حقوق الانسان واجراءات الطوارئ التي استخدمتها الحكومة.
وعلى الرغم من نجاح الحكومة في القضاء على التهديد الجهادي، لم يؤثر الصراع بشكل كبير على اهمية الاسلام
داخل السياسة المصرية. وعلى النقيض، اصبح التفسير الرجعي للاسلام متغلغلاً بشكل كامل في الحياة العامة.
كان هذا واضحا في سلسلة من الاعتداءات البارزة التي شنُت على الحرية الفكرية والفنية وفي الاضطهاد
المستمر للمسيحيين الاقباط داخل مصر.
لقد تمكن التحدي الاسلامي – حتى اثناء
هزيمته – من اعادة تشكيل لغة الخطاب السياسي. تفسر هذا التناقض محاولات الحكومات المتعاقبة تشجيع
الاسلام كمصدر للشرعية الايديولوجية. وعلى الرغم من العلمانية المفترضة في الدولة المصرية، فهي لم تتخل
مطلقا عن دعائمها الدينية. حيث فضل زعماء الدولة الاستخدام العتيق للاسلام الرسمي لشرعنة السلطة
السياسية. حتى اثناء فترة عبدالناصر؛ لكن الاختلاف بين عبد الناصر ومن خلفه يكمن في اعتماد الأول
تفسيراً ليبرالياً او "عصرياً" للاسلام متناغما مع كل من العلمانية والاشتراكية كوسيلة لمجابهة النخبة
من التقليديين ولإجازة رؤيته السياسية.
لكن ذلك تغير مع كل من السادات ومبارك.
فقد استخدم نظام السادات تفسيراً محافظاً وسلفياً للتقليد الديني بهدف القضاء على التأثير المستمر
لليسار السياسي ولإقامة قاعدة جديدة من السلطة السياسية تمتد جذورها داخل الاسلام. ساعدت هذه السياسات
على اضفاء الصبغة الشرعية على الرؤية الاسلامية للمجتمع.
أدّى تحالف مبارك مع
المؤسسة الدينية الرسمية في التسعينات من القرن الماضي الى مزيد من تمكين التفسير الرجعي للاسلام داخل
مؤسسات الدولة المصرية ومنح نظام الحكم درجة عالية من الاستقلالية لرجال الدين الذين اختلفت رؤيتهم
للمجتمع بشكل بسيط مقارنة برؤية المعارضة الاسلامية، وكانت النتيجة بيئة ثقافية محيطة تم خلالها الهجوم
على الحرية الفكرية وحرية التعبير وعلى قطاعات السكان من الاقليات والمبدعين. أصبح نظام الحكم أشبه
بـ"سجين الإسلام" ذلك طبقا لوصف أحد المحللين.
(¶) هيبارد،
سكوت: السياسة الدينية والدول العلمانية، عالم المعرفة، عدد 413 حزيران،
الكويت، 2014.
|