يساعدنا تقرير الأمم المتحدة السنوي للتنمية البشرية، بسهولة ووضوح، لنلاحظ التقدم والفشل والإنجاز والقصور لدى الدول والأقاليم. والحال أن هذا التقرير المهم جعل مفاهيم التنمية والتقدم ثقافة عامة، تُمكّن جميع الناس من الاطلاع الدقيق والقياس الصحيح للتقدم والفشل، إضافة إلى أنه تقرير علمي دقيق، يصلح، أيضاً، دليلاً للحكومات والمنظمات المعنية بالتنمية والعمل العام، ويجب أن تخصص له الحكومات والأحزاب السياسية والمنظمات المجتمعية والجامعات ومراكز الدراسات اهتماماً خاصاً، لتلاحظ، بوضوح، ما أنجزت، وما بقي عليها لتنجزه.
وبما أن التنمية يجب أن تستهدف الإنسان، فإنه يمكن قياس التقدم والفشل في مكتسبات الناس من الاحتياجات الأساسية، وهكذا، فإن التنمية، ببساطة، هي قدرة الأفراد على أن يعيشوا حياة صحية مديدة، وأن يحصلوا على التعليم، وعلى مستوى معيشي لائق. وأمكن بناء مقياس رقمي لقياس هذا التقدم، يُعبّر عنه، بشكل عام، بقيمة دليل التنمية البشرية، وهو مقياس يراوح بين صفر وواحد، بحيث يكون التقدم بمقدار الاقتراب من الرقم 1 والعكس صحيح أيضاً. ويستخلص هذا المقياس من مجموعة كبيرة من المؤشرات والأرقام المتعلقة بالتنمية البشرية، وهي تقع في ثلاث منظومات رئيسية: الصحة والتعليم والدخل. وبالطبع، هناك مجموعة أخرى من المقاييس المتعلقة بالرعاية الاجتماعية والبيئة والمشاركة في الاقتصاد العالمي واقتصاد المعرفة والمساواة والحريات.
وفي قيمة دليل التنمية البشرية، فإن التقرير قسم العالم إلى مجموعات، حسب "قيمة" الدليل، وهي تنمية مرتفعة جداً (0.890)، وتنمية مرتفعة (0.735)، وتنمية متوسطة (0614)، وتنمية منخفضة (0.493). وقد أحرزت الدول العربية، في هذا المقياس، قيمة 0.682، فهي تتمتع بتنمية متوسطة.
وتقاس الصحة في محصّلة مؤشرات عدة، يعبّر عنها بالعمر المتوقع عند الولادة، وهو يبلغ في الدول العربية: 70.2 سنة، وهو في الدول المتقدمة يساوي ثمانين عاماً، ويعبّر عن قياس التعليم بمعدل سنوات الدراسة التي حصل عليها الأطفال في سن التعليم، وهي في الدول العربية تساوي 6.3 سنوات في مقابل 11.7 سنة في الدول المتقدمة، وبلغ نصيب الفرد السنوي من الناتج المحلي في الدول العربية 15.817 دولاراً، مقابل 40 ألف دولار في الدول المتقدمة.
وتؤشر النظرة الأولية العامة للدول العربية إلى أنها تتقدم، وإنْ كان الفرق بينها وبين الدول المتقدمة كبيراً. وفي النظر إلى نقاط الضعف والقصور في التنمية العربية، يمكن ملاحظتها في مجموعة مؤشرات ومعايير، أهمها ضعف مستوى التعليم، كميّاً ونوعيّاً. ويؤدي ذلك، بالطبع، إلى سلسلة من الأزمات والمشكلات الاقتصادية والتنموية التي تعوق التقدم، لأن التعليم حلقة أساسية، بل هو الحلقة الأساس في التنمية. فلا يمكن، بطبيعة الحال، الارتقاء بالمهارات، وبمستوى الدخل والمشاركة العامة والسياسية، إلا بمستوى تعليمي متقدم كمّاً ونوعاً.
ولعلّ أسوأ حالة أصابت التنمية العربية هي الهدر في الموارد، أو الوفرة التي تعمل ضد نفسها. ويمكن ملاحظة ذلك ببساطة ووضوح في الحروب والصراعات والتهجير والقتل والطغيان والقهر، حيث تستخدم الموارد لأجل الدمار والتخلّف والفشل، وينشئ ذلك متوالية من الشرور، فتنهار المؤسسات التعليمية والصحية والخدمات الأساسية، أو تضعف، وتتردّى حياة الناس ومستوى الرفاه، حيث إننا نكون، بمواردنا وأموالنا، نخرب بيوتنا بأنفسنا، ولا فائدة ولا أهمية، بعد ذلك، في اللوم والاحتجاح بحق التدخل الأجنبي والهيمنة، طالما أننا لا نساعد أنفسنا.
ويمكن، أيضاً، ملاحظة كيف يجري الإنفاق، بالفعل، على التعليم والصحة، لكنه إنفاقٌ لا يؤدي إلى الارتقاء بمستوى الخدمات الأساسية في هذه المجالات، فالقدرة الاستيعابية للمدارس أقل بكثير من عدد التلاميذ، ما يدفع الأطفال إلى التسرّب من المدارس، ويدفع بالعائلات إلى القطاع الخاص في التعليم والصحة، فتذهب معظم دخول الفقراء ومتوسطي الحال إلى التعليم والصحة، المفترض أن يحصلوا عليها مجاناً، أو بأكلاف رمزية، في مقابل الضرائب والموارد العامة التي تُنفق.
وهكذا يكون الفشل مركّباً، أولاً، في الإنفاق العام المهدور، وثانياً في الإنفاق الشخصي الذي يوجّه إلى سدّ العجز والفشل الحكومي، بدلاً من أن يتجه إلى المجالات الأخرى في تحسين الحياة، والمفترض أنها مجال الإنفاق، مثل السكن والنقل والغذاء واللباس والثقافة والفنون والتطوع. وتستمر متوالية الشرور بذلك؛ فالطبقات الوسطى، المفترض أن تكون العمود الفقري للعمل العام والثقافي والاجتماعي، مضطرة إلى زيادة العمل بأي شكل، لأجل زيادة دخلها للوفاء بالمتطلبات الأساسية، ويؤدي ذلك إلى العزوف عن العمل العام والثقافي والمشاركة، وينشئ بيئة خصبة ومواتية للفساد والرشوة والاختلاس، والبحث عن مصادر غير مشروعة، لأجل زيادة الدخل. يبدأ وقف متوالية الشر هذه برفع مستوى الأداء العام في التعليم والصحة، لأننا لن نجد مواطنين صالحين من غير مستوى جيد ومتقدم في التعليم والصحة.
ومبتدأ التنمية والتقدم أن يكون المواطنون قادرين على التأثير في السياسة العامة على نحوٍ يوجّه الإنفاق والتوزيع بعدالة. وفي هذه الحالة، لن يكون نقص الموارد مشكلة كبيرة، ولن تقف متوالية الفشل عند نقص الموارد. لكن العدالة والقدرة على التأثير تفتحان المجال لمتوالية إيجابية في التنمية والتقدم، عندما تسلك الدولة والمجتمعات باتجاه تفعيل الموارد وإدارتها، والحصول على أفضل خدمة ممكنة بهذه الموارد، أو على الأقل ألا يشعر المواطنون بالظلم وعدم المساواة.
إبراهيم غرايبة كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت" |