التاريخ: تشرين الأول ٥, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
السباق على الدولة - سفيان أبو محمد
سياقان متوازيان، يحفران في أرض تونس، وكأنهما في سباق خيول جامحة: الأول دموي والثاني سياسي. السياق الأول تتناثر طلقات الرّصاصات على جنباته، وفي كل مرةٍ، ندفن ضحايانا من دون أن نعرف من ضحّى بهم. تسبقه وتعبّد مساره حملات ترويج يومية، لكي لا تفاجئنا أصوات الطلقات النارية، حين يحين موعدها. وهو سياق تكتظ محطاته بالمآسي التي نتابعها على شاشاتنا، في ربوع أخرى من وطننا العربي، المستباحة حرماته.

السياق الثاني، تتناثر على جنباته قوائم المتنافسين للانتخابات. وفي تركيبتهم، يشترك قطاع هائل منهم في جينات الانتهازية والطّمع والبراجماتية. هو سياق يلتفّ حوله كل الشعب اضطرارا، لأن المسار الآخر يُفْضِي إلى حفرةٍ سحيقةٍ، حيث الموت والظلمة والفوضى، لا يعلم هذا الشعب أن المسار الثاني يمكنه أن يفضي، إن حاد عن بوصلة الثورة، إلى حفرة سحيقة، أيضاً، حيث الظلمة والاستبداد والبطش (على الطريقة السّيسيّة).

فوجئ التونسيون، وهم يسمعون القوائم المترشحة للانتخابات التشريعية، بتصدّر رجال المال والأعمال هذه القوائم، كما فوجئوا بعودة الوجوه "الوقحة" التي لفظها المسار الثوري لتونس الجديدة. المفاجأة لم تكن على التونسيين المتابعين عرضا للشأن السياسي، بل حتى على قواعد الأحزاب وبعض قياداتها، وهو ما يفسّر كثرة الانشقاقات في الأمتار الأخيرة. ستذبُلُ جذوة المفاجأة حين نُفصِّل دوافع هذا التوجه ومآلاته.

في العشرين عاماً التي سبقت الثورة، كل من برز اسمه في مجال الاستثمار كان لا يمكنه أن يضمن نجاحه، إلا بالاحتكاك بالضرورة مع منظومة الفساد التي كان يديرها أصهار الدولة. هذا الاحتكاك جعل هذه الرموز بعد الثورة عرضة لسهام التشكيك والتشويه، حتى وإن لم تثبت بصمات الفساد. وهو تشكيك مبرّر، ذلك أن تشابك المصالح والأعمال يجبرهم على تقديم أتاوات المرور إلى الربح السّريع والسّهل لكل بارونات النّظام الفاسد الذي كان يحكم تونس. بعد سقوط صنم الاستبداد، فَهِمَ هؤلاء وبقراءتهم حيثيات السوق السّياسية، أنه ينبغي عليهم أن يطوروا استراتيجيّتهم من "الاحتماء بالدولة"، إلى "الاحتماء في الدولة" عبر آلية الحصانة البرلمانية من كل محاسبةٍ، قد تفرزها العدالة الانتقالية.

أرسيت هيئة الكرامة والحقيقة لتسهر على تطبيق قانون العدالة الانتقالية، وهو ما يمثل هاجساً في عقول المفسدين، لكن، عُطِّلت أعمالها باتفاق سياسي، أو شبه سياسي، نسج في ضباب المرحلة بين كل الأطياف لما بعد الانتخابات، وهو أمر يثير ريبةً كبيرة، وكأنّ هذه العدالة قميص ينتظر المشهد السياسي الذّي ستفرزه الانتخابات، ليُصمّم على مقاسه.

عندما يقتحم الفاعلون في المجال الاقتصادي المجال التشريعي، فَهُم، بالضرورة، سيجرفون كل حواجز المراقبة القانونية والأخلاقية والاجتماعية، ليتسنّى لهم تأمين مسالك "حصاد" الثروة الجماعية لصالحهم، وهو منوال قديم يتجدّد لتتواصل استباحة حقوق العمال والطبقات الكادحة، تحت يافطة تشجيع الاستثمار في تونس.

تلقفت الأحزاب هذه الهواجس والمطامح، فطوّعت الأطر والقوانين لتوجد نقاط التقاءٍ، وكأنها تقدم "صكوك الحصانة" في مقابل توفير الدعم المادي للحملات الانتخابية، كل هذا على حساب مناضليها وقادتها التاريخيين، حيث ألزموا التقهقر للمقاعد الخلفية، ومنهم من حذف بجرّة قلم من المشهد السياسي.