لا يمكن الفصل بين انتشار ظاهرة الإرهاب في العالم العربي والإسلامي وأزمة العقل العربي، إذ يمكن التمييز هنا بين نمطين رئيسيين، الأول هو العقل التقليدي، والثاني العقل العصري. إذ ما زال هناك خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو خطاب يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربي. هذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. السمات الأساسية لهذا الخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف وفق هوية صاحب الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية إلى النضال ضدها، من دون معرفة القوانين التي تحكمها. ومن سماته أيضا إلقاء مسؤولية القصور والانحراف على القدر أو الضعف البشري أو على الأعداء. وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع – في بعض صوره البارزة – إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصري، فهو خطاب عقلاني يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة، يأخذ منها بلا تعقيد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار، والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، إضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل إلى معرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري، ولا يدعو إلى مقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.
وقد سجلت التمييز بين «العقل التقليدي» و «العقل المعاصر» منذ أكثر من عقد من السنين، ومنذ ذلك التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة. فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب، وانتشرت في البلاد الإسلامية والعربية، على رغم اختلاف النظم السياسية، إضافة إلى أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 التي مثلت نقلة كبيرة في تطور ظاهرة الإرهاب الدولي. وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتأسلمة (أي التي ترفع زوراً وبهتاناً أعلام الإسلام والدفاع عنه)، على وجه الخصوص، والتي يمكن أن يكون تنظيم «القاعدة» نموذجها الأبرز الذي تطور في صورة دولة «داعش» المتوحشة، ندرك أن «العقل التقليدي» هو الذي يمهد الطريق لنشأة «العقل الإرهابي» الذي يدفع صاحبه إلى العمل الإرهابي. وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساساً بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا، فإن مفهوم «رؤية العالم»، الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي، هو مفتاح فهم الأسباب الحقيقية للإرهاب.
ولا يمكن الركون للمنهج الاختزالي الذي يحصر أسباب الإرهاب في الفقر أو القهر السياسي، وذلك لأن إرهابيين كثيرين يتحدرون من أصول طبقية غنية، إضافة إلى أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول - هكذا ببساطة - إلى إرهابي. التفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولى غسيل مخ الشباب على وجه التحديد، وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم هو النظرة إلى الكون والمجتمع والإنسان، فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر إلى الكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية «الحاكمية» التي تذهب إلى أن الحاكمية لله وليست للبشر، إضافة إلى تكفير المجتمع العربي والإسلامي، ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية، إضافة إلى الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفاراً وملحدين، وأنهم يشنون حرباً صليبية ضد دار الإسلام، ما يدعو إلى الجهاد ضدهم، هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة، والتي تمثل المقدمة الضرورية لتشكيل «العقل الإرهابي».
إن فكرة «العقل الإرهابي» ليست فكرة بعيدة من نطاق العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب، فمفهوم «العقل الإرهابي» يستخدم بكثرة في الكتابات العلمية التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب. ومن بين المقالات المهمة في هذا الإطار مقال للفيلسوف الفرنسي الشهير بودليار، وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة، في عنوان «عقل الإرهاب»، وآخر للكاتب الفرنسي المعروف آلان مينك في عنوان «إرهاب العقل». ومن ثم، فإن مفهوم «العقل الإرهابي» للدلالة على عقل خاص له سمات فارقة تميزه حتى عن العقل التقليدي والعقل العصري، ليس بعيداً من لغة العلم الاجتماعي المعاصر.
وقد سبق لنا منذ سنوات أن حللنا أزمة العقل التقليدي، والذي يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري.
ويخطئ خطأ جسيماً أنصار تيار الإسلام السياسي الذين يهدفون جميعاً – وبلا استثناء - إلى تقويض الدولة العلمانية الراهنة وإنشاء دولة دينية محلها، إذا ظنوا أننا داخلون في معركة فكرية معهم على وجه الخصوص. وذلك أن معركتنا الحقيقية التي تسعى إلى تحديث المجتمع ومجابهة مشكلاته الجسيمة، موجهة في الواقع ضد الخطاب التقليدي بكل صوره وأنماطه.
وليس لدينا شك في أن الخطاب التقليدي يمر بمأزق حقيقي، لأنه عاجز عجزاً تاماً عن الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه، أياً كان نمطه واتجاهه. وهذا الخطاب لا بد له - في بعض الصور البارزة له - من أن يدفع أصحابه ثمناً فادحاً لعدم مواجهة الواقع، بحكم أنهم منغمسون في تشكيل عالم مثالي من صنع خيالاتهم وأوهامهم. وهم في هذا السبيل لا يعنيهم خرق القواعد المستقرة لحقوق الإنسان، ولا حتى خراب البلاد والعباد. ولعل النظام السوداني الذي كان يرفع لافتة تطبيق الشريعة الإسلامية هو النموذج البارز لسطوة الخطاب التقليدي ومأساته في الوقت نفسه. وهو نظام خرق في شكل منظم حقوق الإنسان، ومنع حرية التفكير والتعبير والتنظيم، لأنه لم يكن يؤمن بأي تعددية سياسية كانت أو فكرية، ومارس الإدارة الاقتصادية للبلاد بطريقة فوضوية أدت إلى التدهور الحاد لمعيشة المواطن السوداني، إضافة إلى حركة الهجرة الواسعة للكوادر والمثقفين، هرباً من جحيم الممارسة العشوائية، وكل ذلك لم يمنع أنصار الإسلام السياسي وحلفاءهم الذين تمثلهم خير تمثيل جماعة «الإخوان المسلمين» وحلفاؤها من السلفيين من إعادة تطبيق التجربة السودانية الفاشلة، والسعي إلى تأسيس دولة دينية في مصر على أنقاض الدولة المدنية.
وقد أحست بعض الأصوات المتنورة من أصحاب الخطاب التقليدي بأنماطه المختلفة، أن جمود هذا الخطاب قد يؤدي بهم إلى الانزواء بعيداً في أحد أركان التاريخ المهملة، لذلك نادوا بأهمية تجديد مقولات خطاباتهم التقليدية. غير أن هذه الدعوة المستنيرة ووجهت بمقاومة شديدة من التيارات «الإخوانية» المتطرفة من أنصار المدرسة «القطبية» (نسبة إلى المفكر الإسلامي سيد قطب) والذين يؤمنون بضرورة استعادة الخلافة الإسلامية ولو بالعنف، على رغم أنهم – في غفلة من التاريخ - وباستخدام آليات الديموقراطية من دون احترام قيمها استطاعوا في مصر – كما هي الحال في تونس - النجاح في الانتخابات مستخدمين ألواناً شتى من التزوير بالمعنى الاجتماعي للكلمة.
غير أنه يعنينا في مجال البحث عن أسباب الفشل السياسي لـ «الإخوان المسلمين» إلقاء الضوء الكاشف على آليات الخطاب السياسي الإسلامي التقليدي لكي نحدد الآليات التي يستخدمها سواء في تقديم أفكاره وتسويقها في كل مكان، أو في الحوار الفكري، غير أن أهم من ذلك هو بيان خطورة العقل التقليدي لأنه المقدمة الأساسية لنشأة العقل الإرهابي!
* كاتب مصري |