نقطة ضوء برزت في الأفق، عند اجتماع وزراء الخارجية المغاربيين في نيويورك للبحث في وسائل تطويق الأزمة الليبية. لكن الانتقال من العواصم المغاربية إلى فضاء الأمم المتحدة في مناسبة قمة زعماء العالم السنوية، لم يرافقه تطور في المواقف على مستوى حلحلة الخلافات التي تنخر الجسد المغاربي، وأكثر ما يخشى أن تنضاف الأزمة الليبية إلى ركام التباين الحاصل إزاء قضايا إقليمية أخرى، من قبيل الوضع في دولة مالي ومنطقة الساحل وتداعيات نزاع الصحراء وأوجاع الخلافات الثنائية.
في أي حال، فالاجتماع وإن جاء متأخراً يبقى أفضل من الاحتماء بمقاعد المتفرجين في مواجهة أزمة لا تهدد الكيان الليبي وحده، بل تنعكس سلباً على بلدان الجوار، بخاصة على صعيد الدولة القادرة على إمساك زمام الأمور بالمرونة والحكمة والحوار. فالاتحاد المغاربي، مهما كانت حدة الجمود الذي يجتازه يشكل الإطار الأنسب لاحتواء أزمة يعاني منها أحد مكوناته الأساسية. ينضاف إلى ذلك أن البعد المغاربي في تكوين الشخصية الليبية يساعد على تقديم تنازلات متبادلة، في حال سلمت الإرادة والرغبة والقدرة.
جربت الأمم المتحدة، من خلال أكثر من مبعوث سبل التعاطي والأزمة الليبية، واصطدمت عبر كل المحاولات بصعوبات إقرار مصالحة وطنية تقود الفرقاء المتصارعين إلى مائدة الحوار. كما جرب الليبيون أنفسهم كل الوسائل العسكرية المتاحة، من دون تحقيق نصر ينتهي إلى مفاوضات. فيما لم تجد دعوات التدخل العسكري من جهات خارجية الصدى الذي توقعته. ولم يبق إلا تجريب الحوار الذي يضمن لكل الأطراف ماء الوجه، إذ تلقي بالسلاح أرضاً وتنبذ الاقتتال والإقصاء والتهميش.
تطرّف المواقف لا يختلف عن موجة التطرف المقلقة التي حتّمت إقامة تحالفات دولية. والليبيون مهما اختلفت رؤاهم وأجندتهم التي تتداخل فيها حسابات داخلية وإقليمية يدركون أنهم وحدهم القادرون على نزع فتيل الانفجار المدمر. فليس في إمكان أي طرف أن يرمي بالآخر إلى عرض البحر أو يلغي وجوده نهائياً. وبالتالي من مصلحة الجميع الجلوس إلى مائدة الحوار التي تسمح بطرح كل التناقضات. فقد ثبت أن الإذعان إلى تهييج المشاعر وتصفية الحسابات لا يصنع دولة عصرية، وإنما يقبر أحلام الثورة التي اتسعت بالآمال ثم ضاقت إلى حد الاختناق عند الإقدام على الخطوة الأولى في مرحلة البناء.
يمكن الدول المغاربية أن تلعب دوراً بناء في حضّ الليبيين على الحوار. فقد توافرت لديها سوابق في التعاطي وأزمة مالي وفي جهود الوساطة بين الفرقاء التونسيين. فالمصارحة القاسية التي تنشد مصلحة ليبيا، بعيداً من أنواع الاستقطاب الإقليمي والعربي هي ما يحتاجه أطراف الصراع. وليس الانكفاء خلف الحدود، بمبرر أن ذلك يحدث في بلد مجاور. وعلى الواجهة الأخرى ليس غير الليبيين من يستطيع ترسيخ القناعة بأن ليس في وسع الأطراف المتناحرة أن تهزم بعضها عسكرياً، بل على العكس من ذلك، في إمكانها أن تهزم الاضطرابات والفوضى و الانفلات، في حال أقرت مصالحة تاريخية.
ثمة مثال من الجرح الجزائري يظل أقرب إلى متناول اليد فقد غاصت البلاد في مستنقع حرب عنيفة ذات خلفيات استئصالية، ولم تتمكن من إقرار خطة وئام إلا في ظل مجيء قيادة سياسية اعتمدت نهج المصالحة. لم تتحقق كل أهداف الوئام لاعتبارات تطاول خيارات سياسية، إلا أن الأهم أن أصوات السلاح تراجعت إلى حد كبير. وإذ يسجل للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أنه حقق هذا الاختراق الكبير، تصبح ليبيا في حاجة إلى رئيس دولة من طراز القادة التاريخيين الذين يضعون إنقاذ بلادهم فوق أي اعتبار.
ليس مثل عجلة الديموقراطية ما يساعد في تكريس الانتقال السلس للسلطة والمسؤولية، لكن الإعداد للاستحقاقات الرئاسية يتطلب تمهيد الأجواء عبر مصالحة تروم وقف النزيف الحاد. فالمعطيات إن لم تكن تغيّرت على أرض الواقع الليبي الراهن، فإنها على الصعيدين الإقليمي والدولي لا تترك مجالاً لنزعات التطرف. وفي إمكان الليبيين الذين استبقوا الأحداث إلى ثورة ضد نظام العقيد معمر القذافي أن يستبقوا التطورات من خلال تكريس مصالحة تفسح في المجال أمام بناء دولة عصرية. والأكيد أن الرغبة لا تعوزهم بل القدرة على تحويلها إلى واقع معاش. و أفضل أن يتصارع الفرقاء على صناديق الاقتراع من أن يتقاتلوا بسلاح سخي هدفه تدمير الأمل ببناء ليبيا الثورة.
|