صادفت فلاحاً مصرياً فصيحاً، منذ عدة شهور، من محافظة المنوفية، لكنه يعمل فى الأراضى المستصلحة حديثاً بمنطقة النوبارية، حيث أملك عدة أفدنة، وبيتا ريفيا أقضى فيه عطلة نهاية الأسبوع، كلما فاض كيلى بالقاهرة المُكتظة.
اسم هذا الفلاح حمزة، وقد حصل على عدة سنوات من التعليم النظامى، ولكن أكثر من ذلك، فهو قارئ جيد للصُحف، ومُتابع نشط للشأن العام فى وسائل الإعلام.
كان حمزة، بين الحين والآخر، حينما يعلم أنى موجود فى مزرعتى، يأتى لزيارتى، والحديث معى فى شؤون المزرعة حيناً، وفى الشؤون المصرية العامة أحياناً أكثر! ولذلك سميته الفلاح الفصيح.
وفى آخر مرة التقيت حمزة، الفلاح الفصيح، وجدته مهموماً، على غير عادته المرحة. فبادرته بالسؤال: هل اشتريت شهادات استثمار فى مشروع قناة السويس الجديدة؟ أجاب بصوت حزين بأنه لم يفعل، لا فقط لأنه ليس لديه مدخرات يستثمرها، ولكن أيضاً، لأنه لم يعد يطمئن لحُسن سير وسلوك الحكومة! فسألته: كيف هذا، يا أخ حمزة، وقد كنت متفائلاً ومُتحمساً لانتخاب السيسى رئيساً، منذ عدة شهور!؟
رد حمزة، نعم، فقد كنت أظن أنه مع انتخاب الرجل، وبعد ثورتى 25 يناير، و30 يونيو أن مصر ستخلو من المحسوبية والفساد، وسيأخذ كل ذى حق حقه... ولكن ها هو ابنى الذى تخرج من أوائل كلية حقوق المنوفية... وكان أمله وأملى أن يعمل بالنيابة العامة، أو مجلس الدولة... ولكن لم يحدث... وبدلاً من ذلك تم تعيين من أتوا فى التخرج، بعده، فى هذه المواقع، لأنهم من أبناء المستشارين والقُضاة! صحيح أنهم عيّنوه فى إحدى الوظائف فى ديوان المحافظة... ولكنها لم تكن الوظيفة التى كان يصبو إليها! فأدركت أنا وابنى، أن مصر لم تتغير بعد... وربما لن تتغير أبداً، رغم الثورتين، وقبلهما ثورة يوليو 1952، وثورة تصحيح أنور السادات!
ورغم تعاطفى مع حمزة وابنه المتفوق، فقد شاكسته قليلاً بالحجة التالية: حينما تُبذر حباً... هل تتوقع محصولاً فى اليوم التالى؟ إذن كيف تتوقع من أى ثورة، أو أى رئيس، أن يُغير كل شىء، بين يوم وليلة؟
رد حمزة، الفلاح الفصيح، لقد سمعت تصريحاً للرئيس عبدالفتاح السيسى، يقول إنه لا يُحب الواسطة أو المحسوبية... ولم يلجأ لهما أو يُمارسهما فى حياته... واستطرد حمزة، لقد اعتقدت أنا وابنى، أنه إذا كان رئيس الجمهورية كذلك... فلا بد أن يختار رئيساً للوزراء على شاكلته... وأن هذا الأخير، لا بد أن يختار وزراء بنفس المواصفات، أى على أساس الكفاءة والنزاهة... وأن ينطبق ذلك على كل وزرائه، خاصة وزير العدل الذى تُشرف وزارته على قواعد اختيار العاملين فى النيابة.
وإمعاناً فى مُشاكسة الفلاح الفصيح، سألته: ولماذا كل هذا الحِرص منك ومن ابنك للعمل فى النيابة؟ أجاب حمزة، لأننا فى الريف لا نعرف من رموز الدولة، سوى ضابط الجيش، وضابط الشُرطة، ووكيل النيابة، ومُفتش الرى، ومُفتش الزراعة، والصرّاف (جامع الضرائب). ومن هنا، حِرص كل عائلة ريفية على أن يكون لها ابن فى الجيش أو الشُرطة، أو النيابة... أى ابن فى وظيفة مرهوبة ومحترمة، يُدافع فيها عن أبناء أسرته المُمتدة، وعن مصالحها فى دواوين الحكومة... حاولت تغيير الموضوع، فسألت الفلاح الفصيح عن رأيه فى مشروع قناة السويس الجديدة، وعن مشروع استصلاح الخمسة ملايين فدان من صحارى مصر، وإضافتها إلى الستة ملايين المزروعة حالياً؟ أجاب الفصيح، ليس هناك مصرى لا يُرحب بأى من المشروعين، ولكن السؤال هو من أين لنا بالأموال، ومن أين لنا بالمياه اللازمة لهذا الاستصلاح؟ أو ليس الأولى أن نُحافظ على الأرض الزراعية القديمة، والتى بناها طمى النيل، على امتداد آلاف السنين، والتى يزحف عليها العمران الريفى والحضرى، ويقتطع منها مائة ألف فدان سنوياً؟ ومن أين سيأتى بمليونى فلاح لزراعة هذه الملايين الخمسة فى صحارى مصر، ونحن لم ننجح منذ ثورة يوليو 1952، ومشروع مديرية التحرير، إلا فى اجتذاب رُبع مليون خلال نصف قرن، ومعظمهم بالمناسبة، وأنا (أى حمزة) واحد منهم نعيش فى مركز بدر! الذى أصبح تابعاً لمحافظة البحيرة.
إن حديثى مع حمزة، الفلاح الفصيح، كان كاشفاً عن وعى جديد، أهم ملامحه هو مُساءلة من هم فى السُلطة، دون خوف أو هلع. أما ملمحه الثانى فهو الاستعداد للحركة، وحُب الاستكشاف، والمُشاركة فى العمل العام.
ويبدو أن الفلاح الفصيح قد أصبح ظاهرة عامة، خاصة منذ ثورة 25 يناير، بمعنى أن المصريين جميعاً قد تسيّسوا، أى أصبحوا يهتمون بالشأن الوطنى العام، خارج عائلاتهم وقراهم، وخارج الأحياء التى يعيشون فيها بالمدينة.
بتعبير آخر، أصبح المصرى العادى يُدرك أن ما يحدث فى القاهرة العاصمة، يؤثر على حياته فى كل قرية وفى كل مدينة.
لم ينس الفلاح الفصيح أن يسألنى قبل أن ينصرف: كيف ستستقبل أمريكا الرئيس السيسى، حينما يذهب إلى نيويورك، لإلقاء خطاب فى الأمم المتحدة؟ أجبته بأن معظم الأمريكيين لا يُتابعون، لا جلسات الأمم المتحدة، ولا زيارات المسؤولين الأجانب. ولكن هذه المرة سيُشاهد الأمريكيون مُظاهرات مصريين مُتعاطفين مع الإخوان يحملون لافتات احتجاجية على حُكم العسكر، ويهتفون ضد انقلاب 30 يونيو. وسيرون على الجانب الآخر من الشارع مُظاهرات مصريين آخرين يهتفون للسيسى، وضد الإخوان. وسيشاهدون شُرطة مدينة نيويورك تحمى أولئك، وهؤلاء، ما داموا يُعبّرون عن أنفسهم سلمياً.
قال الفلاح الفصيح: سبحان الله.. هل هذه هى ديمقراطيتهم؟ قلت له نعم، والكل يستفيد منها.
وعلى الله قصد السبيل |