التاريخ: أيلول ٢٩, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
كل هؤلاء المترشحين للرئاسة في تونس - المهدي مبروك
يعكس الإقبال المكثف في تونس على الترشح لأول انتخابات رئاسية بعد الثورة رغبة جامعة في التجرؤ على وثنٍ، طالما أحاطت به أسوار، حالت دون الاقتراب منه، ولم يسمح بذلك إلا لمن رضي أن يلعب دور أرنب سباق. يتذكر التونسيون كيف تم تحوير دستور بلادهم، غير مرة، في فترة نظام زين العابدين بن علي، لاستثناء المنافسين الجديين المحتملين.

هناك رغبة بائنة في التشفّي من حرمانٍ، رافق أجيالاً من التونسيين، وامتد طويلاً حتى قارب نصف قرن. وإذا ما استحضرنا عدد المترشحين الذي بلغ نحو السبعين، يتبين أن لنا أكثر من مترشح عن كل سنة في تونس منذ استقلالها. وقعت البلاد، منذ ذلك التاريخ، تحت حكم فردي استبدادي، يلطفه تونسيون، عندما يستحضرون إنجازات ومكاسب، لا ينكرها إلا عنيد أو مكابر، من قبيل تحرير المرأة والتعليم الذي كان، إلى حدود سنوات خلت، جيداً، والخدمات الصحية الحسنة.. إلخ.

تقدم للترشح للانتخابات الرئاسية أشخاص لم تكن لهم مساهمات ذات بال في معركة الديمقراطية، أو فيما عرفته تونس من حراك سياسي ونضالات بعد الثورة. هم مواطنون من "عامة الناس"، ترشحوا لأسباب مختلفة، منهم منير الماجري الذي يسكن في حي شعبي في مدينة حمام الأنف. لا يخفي، في تصريحاته، أنه ترشح انتصاراً لقضية ابنه المعوق. ولا يدّعي أن له برنامجاً لإنقاذ بلاد من مخاطر الإرهاب والإفلاس، ولكن، ليخلص ابنه من معاناة مريرةٍ. إنه لا ينضوي في تصنيفاتٍ سياسية، تجعله مبشراً ببرامج، أو نماذج مجتمعية، ولا تحركه، أيضاً، لوبيات اقتصادية، أو مجموعات ضغط، على خلاف غيره، لم يرافقه أصدقاؤه، ولا أتباعه ولا حتى أفراد عائلته، إلى الهيئة العليا للانتخابات، لمّا أودع ملفات ترشحه. ذهب فقط للترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ولم يحسب، أو يستحضر، قدراته الرمزية، ولا المالية، للتعبئة. كما لم يكن، أيضاً، ملمّاً حتى بالإجراءات في مثل هذه الحالة.

وعلى الرغم من أن تونسيين يبدون استهجاناً كثيراً لعشرات الحالات المماثلة لمنير الماجري، ومنها ما هو أغرب وأطرف، فإن الأمر، في اعتقادي، يدعو إلى تفهم خلفية هذا الإقبال المكثف على الترشح للرئاسية. لا شك أن ذلك يعكس الرغبة الدفينة في جعل الترشح لمنصب الرئاسة حقا متاحاً لكل التونسيين. وفضل هذه الترشحات أنها جعلت الرئاسة تنتسب إلى عالم الناس، وليس إلى الخوارق والمعجزات.

عديدون من هؤلاء غير ملمين بما يفرضه القانون من شروط للترشح، ولكنْ عديدون، أيضاً، هم على علم بأدق تفاصيله، وقد صوت عليه قبل أشهر، أعضاء المجلس التأسيسي، ومع ذلك يجدون متعة في إغراق السوق الانتخابي بترشحاتهم، نكاية في المرشح الأوحد، حتى ولو رفضت، فيما بعد، الهيئة العليا للانتخابات ذلك، لعدم استيفاء الشروط التي يرى فيها بعضهم إقصاءً يتنافى مع ما نص عليه الدستور التونسي، حسب اعتقادهم. ما أضافه القانون جعل الرئاسة تعود مجدداً حكرا لدى بعضهم، وهو ما يدعون إلى تجاوزه، استناداً إلى روح الثورة. يحلم هؤلاء بحالة من مشاعية الترشح للرئاسية.

ولكن، بعيداً عن الرغبة في الانتقام والتشفي من منصبٍ، ظل منتصباً على أفئدة الناس وجثث المواطنين، فإن لا أحد ينفي اختلاف الاستراتيجيات والنيات الترشيحية لدى أغلبية المترشحين، باستثناء الحالات النادرة التي أشرنا إليها سابقاً. تظل تلك الاستراتيجيات، على الرغم من تباينها وغموضها، مشدودة إلى أربعة أصناف كبرى ليست ثابتة، ولا مغلقة، إنما هي مفتوحة على ما في الحقل السياسي من مواقع ومصالح، بحسب القوى الدافعة لهذا الصنف أو ذلك. ويمكن أن نقترض من عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، نماذجه المثالية التي يتم، بمقتضاها، تضخيم مميزات متفردة وتجميع ما بدا ظاهرياً مشتتاً. وهذه الأصناف الأربعة: الأول، يجمع المناضلين الذين عارضوا نظام بن علي، وخاضوا معركة الديموقراطية والحريات على امتداد العشريتين تقريباً، وعرفوا، في أثنائها، محناً وتجارب مريرة، تراوحت بين السجن وإضرابات الجوع والمنفى. رفاق النضال الذين تراصّوا أمام بن علي يقفون، اليوم، منافسين بعضهم.

وعلى الرغم من بعض النيران الصديقة، تبدو تصريحاتهم منضبطة وغير عدوانية، ملتزمة بالحد الأدنى من الأخلاق السياسية و"عشرة خبز وملح"، اقتسموها في ماضيهم النضالي. يحسب لهؤلاء قدرتهم على صياغة الخطاب الانتخابي، بقطع النظر عن مدى إقناعه وواقعيته. ينطلق هؤلاء بأدوات عملٍ، اكتسبوا جلها من خلال محن الماضي. شرعية النضال تظل رهانهم، على الرغم مما اعتراها من تهرؤ ناجم عن إخفاقات المرحلة الماضية التي لم ينج حتى معارضو الترويكا من تبعاتها. لن يتعب هؤلاء في التعريف بأنفسهم، على غرار بعض منافسيهم من النكرات، ولكن، سيلاقون مشقةً في إقناع الناخبين بصواب اختياراتهم وصدق نياتهم. 

المجموعة الثانية من المترشحين هم القادمون إلى السياسة بعد الثورة، وأساساً، من عالم الرياضة والأعمال. هؤلاء يسبحون، عادةً، في فلك حزب نداء تونس، وهو الخليط السحري العجيب الذي جمع قدامى الحزب الحاكم إبان بن علي ومنتمين إلى تيارات ليبرالية ويسارية.

سجلت هذه المجموعة حضوراً مكثفاً لرجال أعمال ورئيسي فريقين رياضيين، يعدان من أعرق الفرق الرياضية، كان أحدهما قد فاز بكأس تونس لكرة القدم السنة المنقضية. أثارت تصريحات بعضهم سيلاً من النقد وردود أفعال سلبية، وصلت إلى حد التندر. ولكن، سنسجل حالات استثنائية، قد تكشف عن مهارات وخصال لهؤلاء، بعيداً عن الأحكام المتسرعة والصور النمطية الجاهزة.

الصنف الثالث متكون، أساساً، من وزراء النظام السابق، يخوضون غمار الرئاسية، كشخصيات مستقلة، أو منتمية لأحزاب ذات مرجعية تعود إلى حزب بن علي، التجمع الدستوري. في أغلب الأحيان، يسبحون في فلك النظام القديم. لا شك أنهم استفادوا من تعثر منظومة العدالة الانتقالية، فأعلنوا، بعد مضي نحو ثلاث سنوات عن الثورة، وجودهم القانوني، الأذرع الإعلامية، المزروعة هنا وهناك، وخيبات الحكم والدولة العميقة، هيأت لهم مناخاً اصطناعيا للبروز وتسويق صورهم على أنهم منقذون للبلاد.

خارج هذه المجموعات الثلاث، ينتشر لفيف من المترشحين المغامرين، والذين يثيرون، أحياناً، الاستغراب، كما ذكرنا سابقاً، وهم شخصيات غير نمطية، تعمد إلى لفت الأنظار وتصفية حسابات مع مسائل ذات علاقة بمسارها الحياتي الشخصي.

ثمة من يتحدّث عن رهانات المال والشهرة، للتشويش على صفاء المشهد الانتخابي الرئاسي، وترثيثه إلى حد الازدراء، لكن تلك مجرد فرضيات قد تحتاج إلى البرهنة.

المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.