التاريخ: كانون الأول ٩, ٢٠١٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
مأزق نموذج الديموقراطية المصرية المحدودة

محمد سيد رصاص


بدأ الرئيس المصري أنور السادات باخراج سجناء جماعة الإخوان المسلمين من المعتقلات في الشهر التالي لإبعاد الرموز اليسارية للمرحلة الناصرية، بقيادة علي صبري، في يوم 15 أيار 1971. وقد بدأ مذ ذاك في استخدم الإسلاميين من أجل تحجيم الناصريين والشيوعيين في الجامعات، وداخل النقابات المهنية. ولكنه عندما سمح بنشوء الأحزاب في عام 1976 لم يرخص لنشوء حزب اسلامي، وإن ترك الإخوان تنظيماً "واقعياً" ينشط بحرية على الأرض من دون شرعية الترخيص، إلى أن ضاق السادات بالمعارضة المتنامية على خلفية "كمب ديفيد" والإقتصاد وبداية الإضطراب الطائفي مع حادثة الزاوية الحمراء بالقاهرة، قبيل شهر من اغتياله في 6 تشرين الاول 1981، فجمع الجميع بمن فيهم زعيم حزب الوفد فؤاد سراج الدين في السجن.


كان نهج الرئيس حسني مبارك مختلفاً: جمع بين فرض قانون الطوارئ غداة اغتيال سلفه وبين الإنفتاح على القوى السياسية التي أخرج زعماءها وكوادرها من السجون وسمح لها بحريات في السنوات الثلاث الأولى من عهده لم تذق مثلها في عهد السادات. في انتخابات برلمان (مجلس الشعب) 1984 لم يعط الإخوان الترخيص لكي ينزلوا مرشحيهم على قائمة حزبية خاصة (لم يكن يسمح بالترشح إلا ضمن القائمة الحزبية، المنفردة أو الإئتلافية، ويكون التمثيل البرلماني لمن ينال مافوق8% من مجموع أصوات المقترعين)، ولكن قامت السلطة المصرية بغض البصر عن ركوب مرشحي الإخوان في مركب الوفد ليصلوا الى البرلمان، وهو ما تكرر منهم في عام 1987، لما نزلوا ضمن قائمة حزبين متحالفين هما العمل والأحرار، ولينال الإخوان مقاعد برلمانية جعلت منهم الحزب الثاني في البرلمان بعد الحزب الوطني في تلك الإنتخابات التي رفع فيها القيد الحكومي عن ترشح المستقلين منفردين في الدوائر، إثر تلمس السلطة المصرية مدى تنامي القوى الحزبية المعارضة.


أعطى نهج الرئيس مبارك صورة عن نموذج جديد من الحريات السياسية: اعطاء ديموقراطية محدودة للقوى السياسية المعارضة سواء منها "الشرعية" أو تلك "الواقعية" الوجود، وذلك في دولة تحكمها سلطة رئاسية، تحتكر القرار السياسي والأمني، وتترك الباقي لحكومة "الحزب الحاكم"، فيما البرلمان الذي تتواجد فيه تلك القوى المعارضة، بنموذجيها، محدود الصلاحية، وبينما المجتمع محكوم في حراك فاعلياته، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بسيف مصلت  فوقه اسمه قانون الطوارئ.


في تلك الفترة كان الاسلاميون، بشقهم الإخواني، في حركة تناغم مع السياسة المصرية في معظم المواضيع الداخلية وفي أكثر قضايا السياسة الخارجية (ما عدا كمب ديفيد) بحكم تلاقي الطرفين مع واشنطن ضد السوفيات في فترة الحرب الباردة، وبالذات في أفغانستان الثمانينات: ومع الهزيمة السوفياتية أمام واشنطن في 1989 انتفت أرضية التحالف بين الحركة الاسلامية العالمية والغرب، ليُترجم آنذاك في القاهرة منذ عام1992 في حرب مفتوحة شنها النظام المصري على الاسلاميين لم يفرق فيها لعقد من الزمن بين الإخوان والجهاد والجماعة الاسلامية، حاولت فيها السلطة الحفاظ على نموذج الديموقراطية المحدودة ولكن بأسلوب جديد منعت فيه الإخوان من الوصول بأي منفذ الى البرلمان، مع تقييدات أكبر على حركتهم في الجامعات والنقابات المهنية وفي العمل الدعوي-الثقافي، إضافة الى استخدام تكتيك جديد حاولت به انشاء تناقض بين الإخوان وكل القوى السياسية "الشرعية". وعندما تمرد حزب العمل على ذلك في التسعينات قامت السلطة بإجراءات أدت إلى إزالته من الحياة السياسية.


تلاقى هذا مع واشنطن ومع فئات اجتماعية تقف وراء السلطة المصرية، وعند فئات خارج تلك الدائرة تخاف (بحكم نمطها الحياتي الاجتماعي، أو لكونها من الأقلية القبطية) ممّا يحمله الاسلاميون. هذا جعل نموذج الديموقراطية المحدودة، وبالذات في طبعته المقلصة في التسعينيات، ذا طابع وقائي، يستوعب الكثير من دروس تجربة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الذي سمح، بعد تظاهرات تشرين الاول 1988، بفتح كل نوافذ نظام الحزب الواحد أمام الخصوم السياسيين لكي ينالوا الشرعية الحزبية – السياسية، إلى أن قام الجنرالات في الأسبوع الثاني من عام 1992 بإقالة بن جديد وبإلغاء الجولة الثانية من انتخابات البرلمان التي كانت مؤشرات جولتها الأولى (26 كانون الأول 1991) تشير إلى فوز الإسلاميين. هنا، كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من أول المستوعبين للدرس الجزائري لما اتجه (وقبل الجنرالات الجزائريين) إلى استئصال الاسلاميين منذ أيار 1991، بعدما أقلقته نتائج انتخابات (الجمعية الوطنية التونسية)، في 2 نيسان 1989، لما نال الاسلاميون 9% (وهم غير المرخص لتنظيمهم، والذين نزلوا كمرشحين مستقلين) من مجموع الأصوات فيما نال حزب واحد من الأحزاب الستة "الشرعية" المرخصة في المعارضة، أي (حركة الديموقراطيين الاشتراكيين)، نسبة5 %، والباقون كانوا أقل من ذلك بكثير.


في هذا الإطار، حصلت تجربة مماثلة لتحجيم الاسلاميين من قبل الملك حسين في الأردن، عبرتعديلات في القانون الإنتخابي، بعدما أقلقه كثيراً فوز الإسلاميين بأكثر من ربع مقاعد برلمان انتخابات 8 تشرين الثاني 1989، والتي قال الملك عندما سمح بإجرائها، وسط عاصفة "الموجة الديموقراطية" التي كانت تضرب أوروبا الوسطى والشرقية آنذاك، بأنه "يجب الإنحناء أمام العاصفة"، وفي الوقت نفسه لجأ إلى اجراءات تشجيع الآخرين أمام الاسلاميين، بخلاف كل تكتيكاته السياسية المعاكسة منذ نيسان 1957بإستخدام الاسلاميين ضد البعثيين والشيوعيين الأردنيين. ايضاً، حاول الجنرالات الجزائريون استخدام اليساريين والعلمانيين والبربر ضد الاسلاميين منذ يوم انقلابهم على بن جديد، وعندما استعصى عليهم في ذلك حزب جبهة التحرير الوطني، زمن قيادة عبد الحميد مهري، لجأوا إلى تنظيم انقلاب حزبي داخلي ضده في عام 1996.


كان تداعي قوة الاسلاميين الجزائريين، بشقيهم في الجماعة المسلحة وجبهة الإنقاذ، مؤدياً في عهد الرئيس بوتفليقة (منذ نيسان 1999) إلى نجاح نسبي لنموذج الديموقراطية المحدودة، التي تم فيها استبعاد القوى الاسلامية الرئيسة (الإنقاذ) أوالتي تخرج عن المرسوم (حركة النهضة بزعامة الشيخ جاب الله)، وخاصة لما ترافقت تجربة بوتفليقة مع الهدوء الأمني وارتفاع أسعار النفط والدعم الدولي، مما سمح لأول مرة في الجزائر منذ 19 حزيران 1965 بأن يضع رئيس مدني العسكر تحت سلطته.


 في تونس لم يحصل شيء من ذلك وإنما كان هناك اتجاه متزايد لتحديد وقمع الحريات حتى ضد الأحزاب "الشرعية" المرخصة، ولزيادة قبضة القوى الأمنية على المجتمع حتى مع تداعي قوة الاسلاميين التونسيين خلال العقد الأول من الألفية، وهو ما حصل شبيه له في مصر، بعد تجربة انتخابات برلمان 2005 التي كانت حريتها النسبية آتية من رغبة الرئيس مبارك في عدم اغضاب الحليف الأميركي الذي كان في ذروة حملته التبشيرية بالديموقراطية في المنطقة بعد غزو العراق، حيث كان حصول الإخوان المسلمين على 88 مقعداً صدمة كبرى للدوائر الحاكمة، فأشارت تعديلات 2007 في القانون الإنتخابي، في إتجاه إزاحة الإشراف القضائي الكامل في كل المراكز الإنتخابية، إلى رغبة النظام المصري في عدم تكرار تجربة انتخابات 2005، وهو ما بينته بوضوح انتخابات 2010 التي اتجه فيها النظام إلى استئصالية انتخابية بوسائل شتى معظمها غير قانوني أو دستوري أو ديمقراطي، إلا أنه لم يحسب على مايبدو أن الإفراط في ذلك سيقود إلى نتائج عكسية عند الأحزاب "الشرعية"، مثل الوفد، الذي لم يقبل بالأساليب والطرق، التي لا تلوي على شيء، والتي اتبعتها السلطة المصرية في عام 2010، رغم أن زعيم الوفد الدكتور سيد بدوي، المنتخب قبل أشهر قليلة، قد أعطى إشارات عديدة إلى استعداده لقبول دور "ما" في الديموقراطية المحدودة بعد تحجيم الإخوان، إلا أنه كما يبدو لم يتوقع وصول الأمور إلى ذروة في أساليب السلطة، أرغمته على مشاركة الإخوان في الإنسحاب من العملية الإنتخابية، مما يعني انتهاء نموذج الديموقراطية المحدودة في مهده الأول بالقاهرة، بعدما أصبح برلمان 2010 المصري (الذي هو ممر اجباري للانتخابات الرئاسية المقبلة) عملياً من لون واحد وبدون معارضة بشكليها "المرخص" و"الواقعي".
 
كاتب سوري