التاريخ: كانون الأول ٩, ٢٠١٠
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
تراجع "الإخوان" من تراجع التيارات الإسلامية العربية

عبدالمنعم سعيد


هناك تيار عام إقليمي ومحلي يؤكد على أفول تيار يتحدى الدولة العربية المدنية الحديثة‏،‏ وهناك أيضا في المقابل نخبة في الحزب الوطني الديموقراطي عرفت كيف تتعلم من دروس الماضي.
لا أدري هل كان الأمر من قبيل الصدفة وحركة الأقدار‏،‏ أم كان فيه بعض من الدروس والعبر التي تتعلمها المجتمعات من وقت لآخر‏.‏ وعندما قيل إن سمكة القرش راحت تهدد البشر على سواحل مدينة شرم الشيخ استرجع جيل بأكمله تلك الصورة التاريخية لفيلم شهير عرف باسم الفك المفترس‏JAWS‏ عندما هددت سمكة من أسماك القرش قرية سياحية آمنة وتمضي الأحداث لكي يتم اصطيادها بعد أحداث جسيمة اختلط فيها الخطر بالمهارة حتى حازت القرية على الأمن والأمان‏.‏ وقبل أن تظهر سمكة أخرى مفترسة في المدينة نفسها‏،‏ وربما كانت الصدفة وحدها هي التي واكبت اصطياد سمكة القرش بعد أن أصابت حفنة من ضيوف مصر مع ظهور نتائج الجولة الأولى للانتخابات التشريعية وفشل جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في الحصول على مقعد واحد مما ترتب عليه انسحابها من المعركة الانتخابية كلها‏.‏


الطريف في الأمر أن المرشد العام للجماعة المحظورة أعلن بعد هذه النتائج أن جماعته انسحبت بعد أن حققت أهدافها كلها‏:‏ وهي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات التشريعية في بلد ما يكون هدف الحركة السياسية إحراج النظام القائم‏.‏ ومصدر العجب هنا أن الجماعة دخلت في هذه الانتخابات مرارا‏،‏ وحازت على ثمانية مقاعد بالاشتراك مع حزب الوفد في عام‏1984،‏ ثم حصلت على أربعين مقعدا بالاشتراك مع حزب العمل عام‏1987،‏ كما حصلت على‏17‏ مقعدا في عام‏ 2000،‏ وأخيرا على‏88‏ مقعدا في عام ‏2005‏ ولكن في انتخابات‏2010،‏ حتى الجولة الثانية‏،‏ لم تحصل الجماعة على مقعد واحد‏،‏ ولم يحدث ذلك من قبيل المصادفة وإنما نتيجة قدرات تنظيمية وفكرية نجح من خلالها الحزب الوطني الديموقراطي في محاصرة الجماعة ومنافستها في الإنفاق والتنظيم والفكر السياسي الذي تتبناه الجماهير‏.‏


والحقيقة أنه لا يوجد سبب واحد يمكن الأخذ به لتفسير حالة الخروج لكتلة الإخوان المسلمين خالية الوفاض دون مقعد واحد في الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية المصرية‏.‏ ومن هنا‏،‏ يمكن القول إن هناك تفسيرات عدة للتراجع الإخواني‏،‏ بعضها يتعلق بالوضع العام لأنظمة الحكم الإسلامية السابقة أو التيارات الإسلامية الحالية، في حين يتعلق بعضها الآخر بالشأن الخاص لجماعة الإخوان المسلمين في مصر‏.‏


إن النتائج العملية للأنظمة السياسية ذات التوجهات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط كارثية‏،‏ وهو ما تبرهن عليه حالات إيران والسودان والصومال وأفغانستان وباكستان‏،‏ حيث سيطر الفقر المدقع والتراجع الاقتصادي والفساد في توزيع الثروات والتضييق على الحريات العامة‏،‏ بل نشطت الدعوات الانفصالية عن الدولة الوطنية‏.‏ ولم نجد دولا إسلامية خرجت من سياق الأزمات الدورية سوى تركيا وماليزيا‏،‏ فضلا عن استثناءات محدودة في المغرب وإندونيسيا‏،‏ حيث شهدتا أحزابا سياسية إسلامية دينية سارت على طريق الأحزاب الديموقراطية المسيحية في دول أوروبا الغربية التي جعلت الدين مرجعية أخلاقية تعزز ولا تقوض قدرة الدولة الحديثة‏.‏ ويظهر تأثير النوازع الأصولية الإسلامية يوما بعد آخر في اليمن ولبنان والعراق ويضع هذه البلدان في خطر عظيم‏.‏


ونتيجة ذلك تراجع وجود الإسلاميين في المنطقة‏،‏ وبرز في حالات بلاد عديدة منها الكويت والبحرين والمغرب والأردن وفلسطين‏.‏ وكان ذلك نتيجة أن الإسلاميين في الدول العربية يطلقون موجات متلاحقة من العداء لحرية الرأي والتعبير‏،‏ من خلال الدعوة المستمرة لمصادرة الكتب التي تطرح اجتهادات دينية والوصاية على الأفكار وتقييد حرية الإبداع والعداء للفن والثقافة‏.‏


وكانت النتيجة تراجع الإسلاميين السنة في الانتخابات التشريعية التي شهدتها الكويت في أيار ‏2009‏ بل تلقي صفعة قوية من الناخبين‏.‏ فقد تراجع نصيبهم من‏21‏ مقعدا في البرلمان السابق الى ‏11‏ في البرلمان الحالي‏،‏ حيث فاز التجمع السلفي الإسلامي بمقعدين مقابل أربعة مقاعد كان يسيطر عليها في البرلمان السابق بينما فازت الحركة الدستورية الإسلامية بمقعد واحد مقارنة بثلاثة مقاعد‏.‏ وفاز مرشحو القبائل بخمسة وعشرين مقعدا‏،‏ فضلا عن نجاح ما يسمي التيار المدني‏،‏ سواء من المستقلين أو الليبراليين أو النساء‏.‏


وبالنسبة للانتخابات البرلمانية التي شهدتها البحرين في تشرين الاول الماضي‏،‏ فقد أشارت نتائجها إلي استحواذ التيار الإسلامي الشيعي ممثلا في جمعية الوفاق على‏18‏ مقعدا‏،‏ ويليهم المستقلون المقربون من الحكومة وتقلص نفوذ الإسلاميين‏.‏ فبعد أن كان النواب الإسلاميون‏،‏ من جمعية المنبر الإسلامي والأصالة يشغلون‏15‏ مقعدا من مقاعد المجلس النيابي في البحرين خلال الفترة‏(2006-2010)،‏ لم تتمكن الجمعيتان من المحافظة على مكاسبهما السابقة‏،‏ واكتفتا بسبعة مقاعد فقط‏.‏


وفي الانتخابات الخاصة بالمجالس البلدية التي شهدتها المغرب في حزيران ‏2009،‏ تراجعت مرتبة حزب العدالة والتنمية إلي مكانة متأخرة‏.‏ فقد حصل حزب الأصالة والمعاصرة‏(‏ المعارضة‏)،‏ على‏4854‏ مقعدا متبوعا بحزب الاستقلال المشارك في الحكومة‏،‏ الذي حصل على‏4246‏ مقعدا‏،‏ وحزب التجمع الوطني للأحرار المشارك أيضا في الحكومة الذي حصل على‏3318‏ مقعدا‏،‏ والحركة الشعبية‏ (‏المعارضة‏)،‏ التي حصلت على‏1767‏ مقعدا‏،‏ والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية المشارك في الحكومة وحصل على‏2534‏ مقعدا‏.‏ أما حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض المعتدل فجاء في المركز السادس بحصوله على‏1135‏ مقعدا‏.‏


وفي الانتخابات الأردنية التي جرت في تشرين الاول الماضي‏،‏ قرر حزب جبهة العمل الإسلامي وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين تفضيل خيار المقاطعة بدلا من التعرض لهزيمة قاسية‏.‏ وفي الحالة الفلسطينية سبق أن أخفقت تجربة حركة حماس في الحكم منذ انتخابها في ‏25‏ كانون الثاني ‏2006،‏ رغم حصولها على ‏76‏ مقعدا بنسبة ‏57.6%‏ من إجمالي عدد مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، حتى إنها لم تعد على استعداد لخوض انتخابات أخرى وأكثر من ذلك قامت بفصل قطاع غزة عن بقية فلسطين‏.‏


إن أحد التفسيرات المطروحة لتراجع التيارات الإسلامية تحت قبة البرلمانات العربية هو عدم قدرتها على ترجمة البرامج والسياسات التي تطرحها الى سياسات عملية مرتبطة بما يحدث على أرض الواقع‏،‏ وتكون النتيجة رسوبها في امتحان ما يسمى بـ "شرعية الإنجاز"‏.‏ ومن هنا‏،‏ فإن الهوية الإسلامية للتيارات السياسية لا توفر حصانة مطلقة من المحاسبة الشعبية‏.‏ وفي الحالة المصرية‏،‏ لم يكن لتنظيم الإخوان أجندة واضحة وفشل في التأثير على الأجندة التشريعية والرقابية لمجلس الشعب المصري برغم وجوده تحت قبته منذ خمس سنوات‏،‏ وهو ما يمكن قياسه بشكل علمي من خلال مؤشرات محددة مثل الاستجوابات وطلبات الإحاطة والمقترحات والأسئلة والبيانات العاجلة وغيرها‏.‏ فعلى الرغم من أنهم من الناحية العددية مثـلوا أكبر كـتلة معارضة في برلمان ‏2005‏ بحصولهم على ‏88‏ مقعدا‏،‏ وهو ما يعادل ‏20%‏ من مقاعد البرلمان‏،‏ إلا أن تأثيرهم كان ضعيفا وغير ملموس في القضية الحيوية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية‏.‏


إضافة الى ذلك‏،‏ عانت الجماعة من الارتباك في برامجها وعدم القدرة على حسم إشكالية أساسية متعلقة بطبيعة العلاقة بين الدين والدولة في مصر‏،‏ والخلط بين ما هو دعوي وأخلاقي وما هو سياسي‏،‏ وتقديم المصلحة الخاصة لهم كفصيل سياسي على المصلحة العامة للوطن‏.‏ هذا بخلاف الخلافات الحادة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي على مدى الشهور الماضية‏،‏ التي انتصر فيها التيار الأول وبرز فيها الملمح الانشقاقي الذي تعاني منه غالبية الأحزاب السياسية‏.‏


إن الخصم الذي واجهه الإخوان المسلمون في المعركة الانتخابية التنافسية كان حزبا وطنيا ديموقراطيا مختلفا عما اعتاد عليه من قبل‏.‏ وإذا كان الاتجاه الشائع في وسائل الإعلام هو أن أكثر أمانات الحزب نشاطا وتأثيرا هي أمانة السياسات إلا أن هناك أمانة لا تقل عنها فاعلية هي أمانة التنظيم التي أدارت كل الجوانب التنظيمية للحزب بما في ذلك الإشراف على الوحدات الحزبية وعلى لجان وهيئات مكاتب الأقسام والمراكز والمحافظات ومتابعة أدائها لمهامها والتزامها بالانضباط الحزبي‏،‏ وتولت وضع قاعدة بيانات للقيادات التنظيمية وخطط تصعيد تلك القيادات‏.‏


وتقوم أمانة التنظيم بالإشراف اليومي على أداء أمناء المحافظات وعمل اللجنة البرلمانية والتنسيق بين الأمانة العامة والهيئة البرلمانية للحزب، والإشراف على تنفيذ أساليب العمل الخاصة باختيار مرشحي الحزب لخوض انتخابات مجلس الشعب والأساليب الخاصة باختيار أعضاء لجان وهيئات مكاتب الحزب حتى مستوى المحافظة‏.‏ واللافت للنظر أن أمانة التنظيم يغلب على العاملين فيها العنصر الشبابي الذي يتمتع بمؤهلات تعليمية ومهارات تكنولوجية‏،‏ تجعله قادرا على التعبئة والحشد والتنظيم والتنسيق والتخطيط لفاعليات العملية الانتخابية بشكل منهجي ومنظم‏،‏ بخلاف توافر العوامل المادية التي لم يبخل بها أعضاء الحزب الى درجة باتت تنافس الموارد المادية للجماعة‏.‏


هذه الأمانة‏،‏ بالإضافة الى جهد الأمانات الأخرى في مجال السياسات والإعلام والتنمية الاقتصادية قامت بدراسة دقيقة للدوائر التي سقط فيها رموز الحزب عام ‏2005‏ ومرشحوه‏،‏ ما ادى الى اختيار مرشحين جدد يتمتعون بشعبية كبيرة ومصداقية عالية واللجوء لآلية المجمع الانتخابي لتصفية المرشحين والرجوع إلى الشعب كفيصل في الحكم إذا كان هناك أكثر من مرشح‏.‏ وكانت الشبكة التي نجح بها الحزب في اصطياد أسماك القرش الإخوانية هي الدراسة النافذة لكل دائرة على حدة‏،‏ ومن ثم فإن الترشيح المتعدد للحزب الوطني في دوائر عدة لم يكن اعتباطيا وإنما كان لامتصاص التأييد في المناطق المضادة للحزب وليس لتفتيت أصواته كما ظنت فضائيات عدة‏.‏


لقد كان هناك تيار عام إقليمي ومحلي يؤكد أفول تيار يتحدى الدولة العربية المدنية الحديثة‏:‏ ولكن كان هناك أيضا في المقابل نخبة في الحزب الوطني الديموقراطي عرفت كيف تتعلم من دروس الماضي‏،‏ والأهم كيف تستخدم أساليب وأدوات الحداثة والمعاصرة لكي تفوز في المعركة الانتخابية‏.‏
 
رئيس مجلس ادارة صحيفة "الاهرام" المصرية