من يلمّ هذه القوى التي احتشدت وتحتشد في الشوارع البيروتيّة رافعة مطالبها المحقّة في الأجور والسكن وحيال التعنيف؟ مَن مِن القوى السياسيّة الوازنة يريد العمّال والفقراء؟ أغلب الظنّ أنْ لا أحد يريدهم. فقوى 14 آذار ليست مهتمّة بكلّ ما ينخفض عن سويّة الطبقة الوسطى، لا سيّما شرائحها الأعلى، وعن مؤسّساتها المهنيّة والنقابيّة. وهذا فضلاً عن أنّ التركيبة الاقتصاديّة نفسها، التي كان لـ 14 آذار اليد الطولى في بنائها وفي الدفاع عنها، تترك حيّزاً واسعاً جدّاً للهدر الماليّ الذي تُطالَب الفئات الأفقر بتحمّل أعبائه. وبدورها فإنّ قوى 8 آذار ليست مجرّد شريك ناشط في الهدر والفساد، ناهيك عن أنّ بعض قواها تشابه في تمثيلها الاجتماعيّ بعض قوى 14 آذار. فإلى ذلك تشكّل مقاومة حزب الله سبباً للهدر يفوق الأسباب المنظورة والمعروفة، وهو ما لا يقتصر على الخوّة العلنيّة المفروضة على الاقتصاد الوطنيّ. ذاك أنّ وجود هذه المقاومة هو نفسه سبب طارد لجاذبيّة الاقتصاد المذكور وإمكان توسّعه واستقطابه للاسثمار. أضف إلى ذلك أنّ الاقتصاد الموازي للحزب يحدّ من إمكان النظر نظرة موحّدة إلى مسائل العمالة والبطالة والتضخّم، مثلما يحدّ من إمكان الرهان على قاعدة شعبيّة موحّدة في تفاعلها مع السياسات الاقتصاديّة. والأهمّ من هذا كلّه ربّما أنّ مسألة السلاح وأولويّتها تعطّل احتلال الهمّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ الأولويّة التي يستحقّ أن يحتلّها في أيّ بلد "طبيعيّ". ولن يكون من الصعب التدليل على قطاعات اجتماعيّة عريضة كانت، لولا سلاح المقاومة وأولويّته الملحّة، لتزجّ طاقتها التغييريّة في مكافحة الأشكال الحاليّة في توزيع الثروة وإدارة هذا التوزيع. وللمرّة الألف، يلخّص هذا الواقع، كما يكثّف، مأساة الوضع اللبنانيّ الراهن، أي ضياع الاجتماعيّ في غابة الطائفيّ. ذاك أنّه حتّى القوى التي تشكّل طبقيّتها علّة وجودها المعلن، ولا تكفّ عن زعم تمثيلها لطبقات اجتماعيّة بعينها، فُرزت طائفيّاً إلى حدّ بعيد، وانحازت في خياراتها الكبرى إلى "الأهل" الطائفيّين. يصحّ هذا على الأحزاب "العلمانيّة" واحداً واحداً، مثلما يصحّ، إلى حدّ بعيد، على المنشقّين عنها.
واقع الأمر، وعلى هامش الفسحة التي أوجدها التحرّك المطلبيّ الراهن، والتي لا يُعرف متى يغلقها اشتباك طائفيّ في طرابلس أو البقاع، أنّ ما من أحد يريد العمّال والفقراء بصفتهم هذه. والأسوأ أنّ العمّال والفقراء أنفسهم، وأمام المنعطفات الكبرى، لن يريدوا أنفسهم إلاّ بوصفهم طوائف، ولن يروا إليها إلاّ كذلك.
|