بسبب وفرة التشاؤم إزاء الأوضاع الأمنية والسياسية الصعبة
التي يمر بها لبنان والمنطقة، لم تعد مساحات الهدوء والتفاهمات مبعثاً لأسئلة كثيرة فحسب، بل باتت
مجالاً للبحث وراء ظاهر المشهد عن مفاجآت تنتظر الوقت المحدد لها لتقلب الصورة السائدة إلى مشاهد
مختلفة، لا سيما أن ما يشهده لبنان هذه الأيام من تفاهمات أو تسويات لم ينسحب على الأوضاع في
الإقليم.
العراق على نار حامية قبيل الانتخابات العامة المقررة، وسورية على
وقع البراميل المتفجرة والسيارات المفخخة ومعارك الكر والفر. جبهات تغلق في منطقة لتُفتح جبهة جديدة في
منطقة أخرى. أما اليمن فعلى حاله مضافة إليه نكهة جديدة مع حراك الحوثيين القريب من حدود السعودية وباب
المندب. بينما مصر تستعد لانتخابات رئاسية من جهة، ومواصلة الحملة على «الإخوان المسلمين» وأعمال عنف
مرشحة للاستمرار من جهة أخرى.
أما زيارة الرئيس الأميركي السعودية والتي عُلقت
عليها آمال كثيرة فلم يرشح الكثير من نتائجها، بل تكاد تقتصر على إشارات يفهم منها أن واشنطن على عهدها
بحماية أمن المنطقة ودول الخليج الصديقة واستقرارها، من دون أن يعني ذلك التفاهم على الملفات الخلافية
وعلى رأسها سياسة الإدارة الحالية تجاه إيران وما تستدعيه هذه السياسة للوصول إلى الهدف المذكور من
مواقف داعمة لحكم نوري المالكي في العراق إلى حد الالتباس المريب تجاه سورية مع استمرار الحذر والبرودة
تجاه المشير السيسي في مصر، والرغبة المستمرة في العلاقات الدافئة والحاضنة لـ «الإخوان المسلمين» في
أكثر من مكان. وفي مقلب آخر الاستمرار بالضغوط على السلطة الفلسطينية ما قد ينزع عن هذه الإدارة صفة
الراعي الصالح لإدارة مفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل.
تأسيساً على هذه
الصورة للسياسة الأميركية تجاه القضايا الأكثر اضطراباً في المنطقة والتي لا تؤشر حتى إلى أمل بتغيير ما
في زمن الإدارة الأميركية الحالية، كيف يمكن أن نقرأ تبريد الساحة اللبنانية إلى هذا الحد؟ وما هو الثمن
المطلوب تسديده مقابل هذه التهدئة؟
تسوية
تجميلية
مراقبون في الداخل والخارج يعتقدون أن تهدئة الأوضاع في لبنان
ليست أكثر من تفاهمات أو تسويات تجميلية. والمقصود بالتسويات التجميلية أنها لا تطاول بالطبع عمق الأزمة
ومكوناتها، أو مسبباتها بقدر ما تسمح بتثبيت الأوضاع على ما هي عليه.
ما الذي
أدى وبقدرة قادر إلى التفاهم على القضايا الآتية:
- التفاهم على تأليف الحكومة
في شكلها، وتركيبتها بعد 11 شهراً من التعثر.
- التفاهم على البيان الوزاري
وقد يكون أصعب من تأليف الحكومة حيث لم تدرج «تعويذة» الجيش والشعب والمقاومة مع الاكتفاء بصيغة مبهمة
ترضي الأطراف كافة.
- إسناد حقائب حساسة إلى شخصيات من صقور حركة 14 آذار،
الأمر الذي كان قبل قليل من الأيام أو الأسابيع، من المستحيلات.
- التوصل
وبسحر ساحر إلى خطة أمنية عمادها الجيش وقوى الأمن تسفر عن تبخر رموز محسوبة على فريق 8 آذار مثل علي
ورفعت عيد، إضافة إلى عدد من قادة محاور القتال في طرابلس، وقد تمتد بعد البقاع الشمالي إلى
بيروت؟!
- من الممكن إضافة مؤشر آخر إلى كل ما سبق، هو اللغة الهادئة والمحببة
واللطيفة التي يعتمدها العماد ميشال عون عندما يخاطب تيار المستقبل وسعد
الحريري.
طبعاً، كرسي الرئاسة هو الهدف، وهو بالطبع هدف مشروع لكل سياسي، إنما
أيضاً لا يسع أي مراقب للحدث اللبناني ألا يتوقف عند طبيعة العلاقة المستجدة بين تيار العماد وتيار
المستقبل والرئيس الحريري. كما يتردد أن عون سيقوم بزيارة للسعودية التي طالما نعتها بشتى الأوصاف
والنعوت السلبية.
أليس مشروعاً أن نستنتج من كل ما سبق أن هناك ثمناً ما ينبغي
تسديده مقابل تبريد الساحة اللبنانية، وإجراء هذه التسويات التجميلية؟ قبل الإجابة ينبغي التنبّه إلى أن
هذه التسويات توصف بالتجميلية لأكثر من سبب وأهمها الآتي:
أولاً: انكفاء
المطالبة بالقضية الرئيسية، أو السبب الرئيسي للنزاع مع الحزب، أي قضية سلاح «حزب الله» كما جرت
العادة.
ثانياً: وبعد انكفاء موضوع السلاح خلف المطالبة بضرورة انسحاب «حزب
الله» من سورية، ومشاركته في الحرب الدائرة ودفاعه عن نظام الأسد، بتنا في مرحلة أصدق من عبّر عنها رئيس
الحكومة اللبنانية تمام سلام في معرض كلامه عن تدخل «حزب الله» في سورية حين قال: «إن تدخل «حزب الله»
في سورية أمر غير مريح».
بكلام أوضح إن اللمسات التجميلية، أدت في ما أدت
إليه، إلى وقف الحديث عن السلاح والتخفيف من المطالبة بالانسحاب من سورية، وتقريباً تجاهل مضمون خطاب
السيد حسن نصرالله الأخير الذي بات يربط الحوار مع الأطراف الأخرى ببرنامج الرئيس الجديد للجمهورية،
ويؤكد استمراره في الدفاع عن النظام في سورية، كما قال في المقابلة الأخيرة مع جريدة «السفير» اللبنانية
7 آذار (مارس) 2014.
وكشف نصرالله أيضاً أن حزبه زرع العبوة في مزارع شبعا في
منتصف آذار، رامياً إلى التأكيد مجدداً أن المقاومة ضد إســرائيل بالتزامن مع التدخل لمصلحة نظام
الأسد.
ثلاث
ركائز
ثلاث ركائز للحزب ظهّرها خطاب نصرالله والمقابلة في صحيفة
«السفير»: برنامج رئيس الجمهورية ينبغي أن يوافق عليه «حزب الله»، استمرار المقاومة ضد إسرائيل وحماية
نظام الأسد في سورية. ما يعني أن حرفاً واحداً من كتاب «حزب الله» في الأساسيات لم يسقط، وليفهم الجميع
في الداخل والخارج أن الحزب هو الرقم الصعب في المعادلة اللبنانية.
هذا ما
يرجح فرضية الثمن الذي دفع، أو سيتم تسديده مقابل التسويات التجميلية الحاصلة في لبنان. ولكن ما هو
الثمن الذي نتحدث عنه؟
بالطبع، لا يملك أحد المعرفة اللازمة للإجابة عن هذا
السؤال، إنما يمكن تلمّس طبيعة التسويات التجميلية الحاصلة في لبنان نتيجة النظر إلى المشهد الرئيس ومن
بعد، لا سيما فهم الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في المنطقة وهدفها الرئيس وهو الوصول إلى تسوية
للملف النووي الإيراني بمعزل عن الفترة اللازمة للوصول إليها والأعراض الجانبية الناجمة عن إهمال معالجة
الملفات، أو النزاعات والأزمات وحتى الحروب التي تعيشها المنطقة.
واشنطن
تتغاضى عن الحرب الدائرة في سورية، أو بمعنى أدق عن المجزرة المستمرة منذ أكثر من 3 سنوات حتى لا تغضب
إيران إذا ما ضغطت باتجاه إسقاط نظام بشار الأسد. واشنطن راضية وقادرة على هضم كل ما يوجه إلى هذه
الإدارة من تهم وانتقاد، كما هضم الأخطار الناجمة عن المأساة السورية على أكثر من صعيد مقابل الاستمرار
بالمفاوضات مع الإيرانيين.
لم يقدّر لأي متابع للسياسة الأميركية، أقله خلال
نصف قرن أو حتى أكثر، أن يرصد تخاذلاً سياسياً وأخلاقياً على غرار ما يشهده من هذه الإدارة تجاه مأساة
وصفتها آن ماري سلوتر مديرة نيو أميركان فاوندايشن ومديرة تخطيط السياسيات في الخارجية الأميركية بين
2009 و2011 في مؤتمر بروكسيل في آذار الفائت، بأنها مأساة إنسانية، وليست قضية مساعدات إنسانية كما
يحاول البعض اعتبارها. Human Crisis and Not Humanitarian Crisis
إن الحاجة
الملحة والضرورية والسريعة المطلوبة برأي سلوتر، هي وقف القتل. وهذا لن يحصل برأيها، إذا لم تتدخل
واشنطن وتقصف المطارات وسلاح جو النظام لجرّه إلى طاولة المفاوضات.
واشنطن لم
تكترث لكل الهموم الخليجية المشروعة في شأن التدخل أو التمدد الإيراني في دول المنطقة والتي تشغل هذه
الدول أكثر من النشاطات النووية الإيرانية، كما تترك التمدد الحوثي في اليمن والنفوذ الإيراني في العراق
وسطوة «حزب الله» في لبنان وتغض الطرف عن تدخله في سورية المشغولة بالمبالغة الممجوجة بدور «التكفيريين»
و «التكفيريين» فقط، كأنها تفكر ملياً بين الشر الذي تعرفه والشر الذي ستتعرف إليه! وطبعاً الذي قد تكون
ساعدت على خلقه نتيجة سياستها السورية.
الإجابة عن السؤال إذاً تكون مشروعة
إذا اعتبرنا أن ما يجري في لبنان، هو تهدئة عمادها وركيزتها احتواء «حزب الله» والقضايا المرتبطة بـ
«حزب الله» في انتظار التسوية مع راعيه الإيراني. احتواء «حزب الله» بكل ما لكلمة احتواء من معنى وتفادي
الصدام معه أو إغضابه، لا سيما في ما يتعلق بركائز سياسته في لبنان
وسورية.
يصعب أن يخرج الاستحقاق الرئاسي في أيار (مايو) المقبل عن هذا المناخ،
والخشية أن يُسقِط هذا المناخ رئيساً يمدد للأزمة اللبنانية بكل مكوناتها ومسبباتها ويضعها في ثلاجة
الانتظار كما جرت العادة، علماً أن البقاء في الثلاجة طويلاً قد تؤدي إلى مضاعفات تشمل الموت، ولو الموت
البطيء.
* إعلامي
لبناني
|