ترى، كيف تشعر سميرة الخيل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم
حمادي بينما يجري قصف الغوطة بالطيران وراجمات الصواريخ من قبل النظام الأسدي، بكثافة أعلى في هذه
الأيام الربيعية؟ من غير المحتمل أن يكونوا بمنأى عن أصوات القصف اليومي على المليحة ودوما ومناطق
الغوطة الشرقية.
في صف من يقف الأربعة؟ في صف النظام الذي كان يلاحق رزان
وسميرة، وجاءتا إلى الغوطة لاجئتين هرباً من بطشه، ولسميرة منهما تجربة 4 سنوات سابقة في سجونه؟ أم في
صف خاطفيهم المستهدفين من قبل النظام المعتدي، لكنْ المعتدين مثله على 4 أشخاص عزل، لاجئين في
دوما؟
لا يمكن أن يُمنِّي الأربعة العزّل أنفسهم بأن يفتح باب السجن ولو على
يد عدو، على نحو ما سبق أن تمنينا أيام كنا في سجن تدمر الإرهابي. العدو الأسدي الذي قد يفتح باب سجن
المرأتين والرجلين أسوأ من العدو الذي جال على أطراف مخيلاتنا قبل 18 عاماً أن ينفتح باب سجننا الرهيب
على يديه. العدو هذا قاتل عام محترف، إن وقع مختطفو الغوطة في يده سيختطفهم إلى سجونه، وربما يقتلهم بعد
تعذيب مريع، ويعلن أو لا يعلن أن غيره قتلهم. سميرة ووائل يعرفان ذلك جيداً، ولهما في الاعتقال والتعذيب
تجارب شخصية سابقة. رزان وناظم يعرفانه جيداً أيضاً، فقد عاشا في عالم يعج بالمعتقلات والمعتقلين
السابقين قبل الثورة وأثناءها. وفي الوقت نفسه، الأربعة ضحايا مباشرون لمجرم يشبه النظام الأسدي في قيمه
وتكوينه. لقد استهدفهم بالخطف والتغييب مجرم، يستهدفه مجرم، يستهدفهم هم أيضاً، بل كان يستهدفهم قبله.
فماذا يختارون؟ هذا وضع غير معقول والاختيار ممتنع. لكن وضع الأربعة العُزّل هذا هو نموذج أقصى لحال
الثورة السورية، بين نظام إجرام لا يكف عن القتل، وبين مجموعات تشبهه، ويبدو أن بعضها مصمم لغرض وحيد،
هو القول إن هناك ما هو أسوأ من النظام الأسدي.
على أن الأربعة ليسوا ضحايا
إلا كوضع ظرفي راهن. لقد اختاروا موقعهم بحرية دوما ودافعوا عن خيارهم، وهم اليوم وغداً رموز في كفاح
تحرري عظيم. والرموز لا يغيبها سجن ولا من هم أسوأ منه.
فلأن حال الأربعة هي
التكثيف الأقصى لحال السوريين وثورتهم، ليس هناك أصلح منهم رموزاً للثورة، ولغدر إسلاميين مغلقي العقول
والقلوب بها، ولوجوب ثورة أخرى، تكسر حالة الاختيار الممتنع. امرأة، سميرة، سبق أن تعرضت للاعتقال
والتعذيب على يد حافظ الأسد، وكانت معارضة دائماً لنظامه ونظام وريثه ومشاركة في الثورة منذ اليوم
الأول. امرأة أخرى، رزان، هي حقوقية شجاعة وكاتبة لامعة ومناضلة لم تكن من أول المنخرطين في الثورة، بل
بالفعل من مطلقيها. وهما بعدُ امرأتان واضحتا الوجه والوجهة، لا تحجبان من أنفسهما رأساً أو قلباً أو
ضميراً، عاشتا في بلدهما وبين الناس فيه، ولم تكد تسافر أي منهما خارج البلد (زارت سميرة بيروت مرتين أو
ثلاثاً). ورجلان، وائل، الرجل الفائق الصبر والكرامة، الذي اعتقل مرات على يد النظام الأسدي، واعتقل غير
واحد من إخوته أكثر من مرة، وتوفي والده قبل أيام، وساهم في الثورة منذ بداياتها، ورجل آخر، ناظم، محامٍ
وشاعر بالكاد يتدبر أمر معيشته، لكنه قضى عامين ونصف العام متوارياً في دمشق يساعد في أنشطة مختلفة
للثورة. ولم يسبق لأحدهما مغادرة البلد أيضاً.
هؤلاء الأربعة الواضحون مختطفون
من جهة غامضة الأصل والروابط والوجهة، استفادت، كي توجد، من ثورة أسهم في إطلاقها المختطفون من دون
إسهام من تلك الجهة، هذا إن أحسنّا الظن، ولم يكن الخاطفون ممن كان يلعب بهم النظام بين العراق ولبنان
وسجن صيدنايا ومقرات الاستخبارات. الخاطفون، في كل حال، طفيليو التكوين، ما كانوا ليفجروا ثورة، ولا هم
مؤهلون لبناء شيء غير خراب يشبههم.
ولأن سميرة ورزان وناظم ووائل يكثفون الشرط
الأقصى للثورة السورية وللسوريين، فإن الثورة لا تتحقق من دون التخلص من المجرم المؤسس والمجرمين
الفرعيين.
تفجرت الثورة من أجل الحرية، من أجل أن تتوافر لنا خيارات مختلفة،
وهي لا تنتصر بالتخلص من عدو للخيارات الحرة لتقع في يد عدو آخر. هذا وضع نعاينه اليوم مباشرة، يفرض
نفسه علينا بكل قسوة، وليس شيئاً نستدل عليه من مبادئ مجردة.
كان اختطاف
الواضحين الأربعة مساء 9/12/2013 من قبل ملثّمين حرصوا على إخفاء هويتهم أكبر جريمة مفردة ارتكبت بحق
الثورة، من صنف جرائم «داعش»، وتكشف التكوين الداعشي الإجرامي للمختطفين. لذلك بالذات، تحرير الأربعة،
مُعزّزين مُكرّمين، هو رد اعتبار للثورة ضد المجرمين الأصليين والفرعيين. ناظم ووائل ورزان وسميرة رموز
للغدر بالثورة ولثورة مغدورة، وتغييبهم في الظلام طول أربعة شهور يكشف الطابع المظلم لمغيّبيهم وشرِّهم
المحض.
لكن شرط اللاخيار الأقصى هذا يجعل منهم أسطورة هادية وأئمة لعقيدة
جديدة، عقيدة الحرية. كل ما في هذه القصة أسطوري، الأبطال الواضحون، امرأتان عزلاوان ورجلان أعزلان،
الأشرار المسلحون المقنعون الغامضون، والشرير الكبير الأصلي الفائق التسلح. تحتاج القصة إلى مثل شكسبير
أو سوفوكليس ليصنع تراجيديا عظيمة، مولدة لمعنى عظيم.
المرأتان والرجلان
يشرفوننا ثورة وبلداً، ويقول مثالهم الكثير عن كفاحنا وعن أصوله وعن سبيلنا الشاق إلى
الحرية.
وجدت نفسي في وضع استثنائي منذ اختطف في الرقة في تموز (يوليو) 2013
أخي فراس ثم باولو دالوليو، أخونا وأبونا السوري الإيطالي، وألحق بهم في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر)
2013 اسماعيل الحامض، صديقي وطبيبي وطبيب الفقراء في المدينة المنكودة نفسها، ثم اختطف أشباه «داعش» في
الغوطة سميرة ورزان وناظم ووائل. هذا عبء مشرف، لكنه ثقيل ولا يطاق، وكم كنت أرجو لو جنبتني إياه
المقادير. كنت أفضل واجباً أقل وضوحاً، ويمكن مراوغته.
لكن لا
مفر.
* كاتب
سوري
|