التاريخ: نيسان ٧, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
العودة إلى الثورة - سامر فرنجية
قد لا يكون في التاريخ الحديث للثورات والتحركات الشعبية حدث كالثورة السورية، أنتج هذا العدد الضخم من الصور في ظل غياب كامل لأي تمثيل سياسي لتلك المشاهد أو لغة توحِّدها أو تنظِّمها. في ظل هذا التدفق العشوائي للصور، باتت الثورة أشبه بلغة غريبة يحاول المراقب أن يبحث في داخلها عن بعض الألفة أو أن يستقرئ في إشاراتها شيئاً من المعنى. وبعد ثلاث سنوات من التخاطب الفاشل، أصبحت كل كلمة تحتوي على نقيضها لتجعل الكلام أشبه بعملية سوء تفاهم متواصلة.

هكذا اختلطت المجزرة بالخوف على الأقليات، والثوار بصعود السلفيين، والنظام القاتل بمحاربة الإمبريالية، والهروب من الماضي بالرعب من المستقبل، ومطلب الحرية بدواعي التقدّم، والثورة بالحرب الأهلية. وبات كل ما يتعدّى المستوى الماقبل لغوي للتضامن في وجه الموت، مصبوغاً بلون رمادي على رمادي، لاختلاطه بعكسه المزعوم.

أدّى طغيان اللون الرمادي، وهو يُفترض أن يكون لون النضج السياسي المحرّر من الرومانسية والخلاصية، إلى علاقة بالثورة السورية أشبه بحركة المد والجزر، تتحرّك على إيقاع إخفاقات المعارضة من جهة ومجازر النظام من جهة أخرى. وبعد ثلاث سنوات من هذا الأخذ والرد الأحادي الجانب، نشأت حالة من التعب إزاء الثورة ومتطلباتها، إن لم يكن الغضب لصمتها وعدم توفيرها أية طمأنينة لمن دعمها، غير اللون الرمادي لمن تعلّم من أخطاء الماضي.

الرمادي هو اللون الوحيد الذي لم يظهر في فيلم طلال ديركي، «العودة إلى حمص»، الحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي أجنبي في مهرجان «ساندانس» لهذه السنة. فالتعاقب السريع لحالتي الحماسة واليأس على مدار السبع وثمانين دقيقة التي يمتد عليها الفيلم، لم يؤد إلى استنتاج ضرورة رمادية الموقف، بل إلى تعايش الحماسة واليأس كمكوّنين لا يتجزّآن من الثورة. اللون الرمادي يحتاج إلى مسافة من الحدث تذوّب النقيضين، والمسافة هي تماماً ما هو ليس متاحاً للمحاصرين في حمص الذين يتابعهم المخرج خلال السنتين الأوليين للثورة، وهما سنتان من المد والجزر، تعلّم خلالهما جيل جديد معنى أن يحلم وأن يفقد أحلامه في آنٍ. فهناك أحلام وأحلام مسلوبة، وليس من رمادي بينها.

قدرة «العودة إلى حمص» على تجنّب الرمادية، على رغم الطغيان الحالي لهذا اللون، والحفاظ على تلاوين الثورة العديدة والمتناقضة، ناتجة من التصاق الصورة بالواقع. فمن سورية، يعود الفيلم إلى حمص، وإلى حي محاصر فيها، وإلى مجموعة صغيرة في هذا الحي، دورها الوحيد العودة إلى المكان الذي هي فيه. كل شيء خارج هذه البقعة الصغيرة من الأرض وعبثيتها بات مجرّداً ورمادياً. حتى سورية أصبحت فكرة مجرّدة ورمادية، عندما تقارن بصلابة دمار حمص أو تمزّق أعماقها. و «العودة إلى حمص» نفسه لم ينجُ من الالتحام بهذا الواقع، ليصبح جزءاً لا يتجزأ منه، يتشارك معه في مآسيه وشهدائه. إنّه، بهذا المعنى، فيلم الثورة أكثر مما هو فيلم عن الثورة، أو واقع يصوّر ذاته أكثر مما هو صورة عن هذا الواقع. في هذه البقعة من الأرض، واقع واضح، أسود وأبيض، لكنّه ليس رمادياً.

ليس هناك غد أفضل تحت أنقاض حمص، بل مجرّد أرضية لمعاينة الأمور، أرضية لا تسمح بنقاش الكليات التي باتت الملاذ الوحيد للفكر السياسي بعدما طُرِد من الواقع الذي طالب به مراراً وتكراراً. إنّها أرضية منحازة ليس إلى فكرة مجرّدة، يحتاج المرء إلى سلّم ليصعد إليها، بل إلى بشر لا طريق لهم إلاّ العودة. يتساءل الراوي: «هل كان ما فعلناه صواباً؟»، وهو سؤال يعيد استملاك ما حصل بجماله وإخفاقاته، ويعيد تأكيد فعل الثورة في لحظة تدهورها. إنّه سؤال جيل الثورة، أي جيل الأنظمة، جيل من ولِد في هذا السجن، وتربّى فيه، ولم يعرف غيره، والذي تبقى هذه الثورة، «المخيِّبة للآمال والمغدورة والمسروقة والرجعية والخارجة من الجوامع والملتحقة بالصهيونية»، مخرجه الوحيد وفعله الأول والمؤسس. إنّه سؤال جيل خرج من الأنظمة إلى الثورة، وليس جيل الخيبة، جيل من دخل سجن الأنظمة من باب الثورة، متواطئاً أو مخدوعاً أو مكسوراً، جيل يطرح سؤال «لماذا يستمرون في الخطأ؟». إنّه سؤال جيل الثورة، جيل من تربّى على الرمادية، واكتشف لأول مرة أنّ هناك أســود وأبيض قبل أن يكون هناك اللون الرمادي.

ليس من جواب عن تلك الأسئلة غير «النسيان»، هذا ما يطالب به عبد الباسط الساروت، أحد أبطال «العودة إلى حمص» في نهاية عودته. قد يكون هناك نصر عسكري أو هزيمة أو حل سياسي في آخر المطاف، غير أنّ هذا لم يعد مهماً. الثورة كحلم انتهت. الثورة السورية في عامها الثالث باتت مجرّد احتمال إشارة إلى إمكانية غد قد يكسر التكرار العبثي للحاضر، وهذا في أقصى التوقعات. جيل الثورة لم يهنأ بثورته، بدايتها انطوت على خيبة ونهايتها قد تنطوي على خيبة أكبر. الثورة باتت رمادية.

غير أنّ هذا المشهد ليس دعوة إلى الاستسلام أو طلباً لتضامن، بل هو دعوة إلى تفكير بما خسرناه عند اعتناقنا الرمادية كلون، وهو خيار قد يكون حكيماً في السياسة لكنّه أكثر كلفة مما نتخيّل. إنّه دعوة إلى استذكار الثورة وألوانها العديدة، وأيامها الأولى السوداء والبيضاء. وهذا ليس من خلال العودة إلى الماضي، بل بالعودة إلى حمص، إلى «حمص لا أدري أين»، إلى حمص البيضاء والسوداء.