المؤتمر الدولي الأول لتاريخ مصر في العصر المسيحي الذي ينظمه قسم التاريخ في جامعة عين شمس، ببحوثه المتعددة وبالأسماء اللامعة للمؤرخين من مختلف الأجيال الذين يشاركون فيه يُعَد أول محاولة أكاديمية مصرية أصيلة لإحياء الذاكرة التاريخية. هذا الموضوع أثرته أكثر من مرة في كتبي ومحاضراتي لإدراكي أن التاريخ المصري الذي ينقسم إلى ثلاثة عصور كبرى هي العصر الفرعوني والعصر المسيحي والعصر الإسلامي لم يلقَ اهتمامات أكاديمية وفكرية وثقافية بصورة موضوعية تتسم بالاعتراف بأصالة كل عصر من هذه العصور.
وذلك لأنه في الوقت الذي تضاعفت فيه البحوث الأكاديمية التي أنجزها علماء أجانب ومصريون عن العصر الفرعوني وكذلك عن العصر الإسلامي، إلا أن العصر المسيحي حدث له تعتيم غير مبرر أدى إلى إسقاطه تقريباً من الذاكرة التاريخية المصرية، مع أنه زاخر بإبداعات شتى ثقافية ولاهوتية، ويكفي أن نشير إلى أن نظام الرهبنة الذي أصبح ممارسة دينية عالمية نشأ في مصر.
وفي تقديري أن الأهمية الكبرى لهذا المؤتمر الدولي الرائد والذي يستحق أعضاء اللجنة المنظمة له من المؤرخين المرموقين بالإضافة إلى الباحثين الشباب التهنئة على عقده لأنه يمكن أن يكون أساساً لا لمجرد إحياء الذاكرة التاريخية المصرية، ولكن لتدعيم المواطنة والتي أصبحت من المبادئ الدستورية المستقرة في الدساتير المصرية منذ دستور عام 1923 حتى الآن.
وهناك أهمية بالغة في ترسيخ قيمة المواطنة التي تنص على أن المصريين سواء بغض النظر عن الجنس والدين. ومعنى ذلك تأصيل قيم قبول الآخر المختلف دينياً، ونشر ثقافة التسامح. وأهم من ذلك كله تدعيم فكرة "العيش المشترك" التي هي مفتاح التاريخ المصري والتي أكسبت مجتمعنا سمة التجانس النادرة في المجتمعات المعاصرة التي تزخر بالمعارك الطائفية وأدت إلى التشرذم الثقافي والصراع السياسي.
وقد نظّر لفكرة العيش المشترك رائد كبير من رواد فقه المواطنة صديق عزيز لي رحل عنا منذ سنوات هو المستشار الدكتور وليم سليمان قلادة والذي نشر كتابات أصيلة عدة في الموضوع.
وفي هذه المرحلة التي نعيشها والتي تتسم بشيوع ظواهر التطرف الديني والعدوان على الآخر المختلف وممارسة الإرهاب، نحن في أشد الحاجة لإلقاء الأضواء على العصر المسيحي المصري.
وحين طالعت المحاور الأساسية للمؤتمر أدركت أن المؤرخين المشاركين فيه قد أبدعوا في الواقع في وضع مشكلات البحث وفي اختيار الموضوعات الأساسية التي تتيح للمشارك وللقارئ -بعد طبع أعمال المؤتمر في كتاب- أن يلم بالملامح الأساسية للعصر المسيحي المصري.
ينقسم المؤتمر إلى أربع جلسات رئيسة وجلسة ختامية. الجلسة الأولى عن "الرهبانية في مصر". ومن بين موضوعاتها التنوع الجغرافي للرهبان في الأديرة المصرية 380-592، والرهبنة النسائية في مصر في العصر البيزنطي، وطعام الرهبان وشرابهم في مصر في العصر المسيحي الباكر: الشهادات المصدرية، ومفهوم "مقاومة شيطان الشهوة في الفكر الرهباني المصري في العصر المسيحي"، وجدير بالذكر أنني ركزت على أوراق المؤرخين المصريين ولم أذكر ابحاث المؤرخين الأجانب لأنها تحتاج إلى ترجمة دقيقة لعناوينها.
أما الجلسة الثانية فموضوعها "اللاهوت والكنيسة" ومن أبحاثها: مصر المنجم الروحي للمسيحية في أثيوبيا ثم في شبه الجزيرة العربية في العصر المسيحي 384-641. والأريوسيون وأثرهم الفكري والمذهبي بمصر خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين في ضوء المصادر المسيحية والإسلامية، والبطريرك الأريوسي جورج الكياوكي واضطرابات الإسكندرية (360-361) ومذهب الإرادة الواحدة في عهد الإمبراطور البيزنطي هرقل وأثره على الأقباط في مصر، والقضاء الكنسي في مصر في العصر البيزنطي.
أما الجلسة الثالثة فقد خصصت للفنون والآداب ومن أبحاثها: تاريخ مصر في العصر المسيحي: الأهمية القومية والحضارية والثقافية وقراءة في الدور الثقافي لمدرسة الإسكندرية في عصرها المتأخر، والأكاليل الجنائزية في مصر الرومانية وفلسفة الفن المسيحي، ودورها في عمليات الترميم في مصر، ودراسة شيقة موضوعها: كيف يموت القبطي: دراسة ملاك الموت عند القبطي.
ثم نصل من بعد إلى الجلسة الرابعة التي اهتمت أساساً بالمصادر البردية والأدبية ومن أبحاثها: "ثلاثة نصوص مسيحية من مجموعة جامعة كولومبيا، وقراءة جديدة في كتاب يوحنا النقيوسي عن فتح العرب لمصر.
وينتهي المؤتمر بالجلسة الخامسة التي تعرض فيها نتائجه.
وأريد أن أعتذر من قرائي الكرام لأنني قنعت باستعراض أبرز عناوين الأبحاث التي قدمت في هذا المؤتمر الدولي العام الذي يؤكد أن المثقفين المصريين بوجه عام عليهم واجب أساسي هو إحياء الذاكرة التاريخية من خلال أعمال علمية موثقة كالأبحاث المهمة التي قدمت للمؤتمر، والتي من شأنها أن تثقف المصريين مسلمين كانوا أو أقباطا أو يهودا بالإبداعات الحضارية للشعب في عصور التاريخ المصري المتعاقبة الفرعونية والمسيحية والإسلامية.
|