ثمة صورتان فوتوغرافيتان تفشّتا على وسائل التواصل الاجتماعي بالتزامن مع سقوط بلدة كسب في «أيدي فصائل إسلامية مقاتلة على رأسها جبهة النصرة»، وهو التعريف الذي اعتمدته وسائل إعلام عالمية في نقلها الخبر. الصورة الأولى لهلال الأسد قريب الرئيس السوري بشار الأسد، وهو رجل قبيح فعلاً، منتفخ الوجه ومستديره، متورم العضلات على نحو غير بشري، ويرتدي قميصاً عليه صورة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله. والصورة الثانية هي لرجل شيشاني قيل إنه قائد فصيل في «جبهة النصرة»، هو من الفصائل التي دخلت الى كسب. الرجل الشيشاني هذا أصفر الوجه طليق اللحية، يُشبه أيضاً شخصية مصاصي الدماء في الأفلام الخيالية.
الصورتان نقلتا التخيل إلى مجال محسوس أكثر، وأعطتا عمقاً مشهدياً لحال الابتذال والقبح الذي يحاصر السوريين ويخنقهم اليوم. الوقائع لم تعد سياسية إنما هي أقرب إلى صورة الرجلين. والانتقال من المستوى النظري الانفعالي لما تخلفه الصورتان الى المستوى العملي لواقعة سقوط كسب في يد المعارضة، يبدو يسيراً. فبما أن تكبيد النظام السوري خسائر مادية وبشرية أمر خارج الاستثمار السياسي، يبقى السؤال عن «فتح» بلدة كسب ذات الغالبية الأرمنية موازياً للسؤال ذاته عندما طُرح على «حزب الله» بعد «فتح» بلدة يبرود في القلمون السورية. ما هي الوظيفة السياسية لهذه الفتوحات؟
في حالة «حزب الله» ويبرود كان السؤال عن لبنان، وعن ارتداد «الفتح المبين» على الواقع اللبناني، ولم يكن من جواب حقيقي سوى أن الحزب لا يُسأل عن لبنان، وأنه جزء من قوة إقليمية تتحرك على وقع حسابات الجهة المُشغّلة.
ولكن، ماذا عن «فتح» كسب؟ هل كان النصر هناك سورياً؟ صحيح أن الحاجة الى رأب الصدع الذي أحدثته الهزائم التي مُنيت بها المعارضة في القلمون كانت ملحّة، ولكن حتى الآن لا تبدو واضحة هوية المنتصر في كسب. الأكيد أن المعارضة بتشكيلاتها الخارجية (ائتلاف ومجلس وطنيان) خارج هذا الانتصار. فالأخبار عن كسب جاءت على الشكل الآتي: «فصائل مقاتلة اسلامية على رأسها جبهة النصرة تمكنت من إلحاق هزيمة بالجيش النظامي السوري في مناطق الساحل وسيطرت على بلدة كسب»! وترافقت هذه الأخبار مع مؤشرات إلى دور تركي حاسم في هذه المعارك، كانت ذروته إسقاط طائرة مقاتلة سورية. هذه الوقائع لا يمكن المعارضة السورية بجناحها السياسي أن تستثمرها. من جهة، هناك «جبهة النصرة» المرتبطة بسياق آخر من الحسابات، ومن جهة أخرى هناك تركيا المنتظمة في حلف إقليمي (إخواني) شهد تصدعاً بفعل فقده غطاءه الخليجي (باستثناء قطر). وفي أحسن الأحوال، فخطوة الدخول الى كسب جاءت وفق حسابات أخرى لا قدرة للمعارضة على توظيفها في حركتها السياسية.
والحال أن المعارضة السياسية السورية (المقيمة في الخارج) راحت ومنذ أشهر تفقد مزيداً من مواقع التأثير الميداني. فقضية التفاوض على اطلاق الراهبات السوريات شكلت محطة مهمة في تكريس «جبهة النصرة» كطرف ميداني يُمكن الدول أن تتفاوض معه، وأن تُثمر المفاوضات نتائج يمكن لاحقاً استثمارها بمزيد من التفاوض على ملفات أخرى. ويبدو أن الدور التركي والقطري في تكريس «النصرة» صار أمراً مفروغاً منه، وهو ما يسحب من الائتلاف الوطني مزيداً من الأوراق. فما جرى في يبرود كان في هذا السياق، ذاك أن الهزيمة هناك جرت على وقع تنافس في النفوذ الاقليمي لا قدرة لأنقرة وللدوحة على حسمه لمصلحتهما. الهزيمة في يبرود، البعيدة من الحدود مع تركيا، ليست هزيمة لهما، أما النصر في كسب فهو نصرهما.
عواصم أخرى غير دمشق هي مَنْ ينتصر ومَنْ يُهزم الآن في القصبات السورية الحدودية. تنتصر طهران في يبرود وتنتصر أنقرة في كسب، وفيما بشار الأسد يستقبل وفداً برلمانياً أرمينياً داعماً لنظامه، يعترف نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بأن لا قيمة للانتخابات الرئاسية التي يحضّر لها بشار، فترتسم فوق جبل قاسيون صورة رئيس يُشبه تماماً رسمه الكاريكاتوري.
سقطت كسب في أيدي فصائل اسلامية مقاتلة على رأسها «جبهة النصرة»، أو من بينها «جبهة النصرة»، وربما كان للفارق بين «على رأسها» و «من بينها» تأثير ما! وشكّل سقوطها صفعة قوية للنظام. ولكن، من المفترض أن سورية ليست حلبة مصارعة، وأن خطوة من هذا النوع يجب أن تكون جزءاً من خطة ومن أفق.
النتائج حتى الآن تتمثل في الصفعة التي تلقاها النظام، وهي أكيدة من دون شك، وهي أيضاً تمكّن «جبهة النصرة» من اكتساب مزيد من المواقع الميدانية، إضافة إلى توجيه أنقرة رسالة قوية في أكثر من اتجاه.
فلنضع هذه الحصيلة على مائدة التفاوض والفعل السياسي الذي من المفترض أن يكون الائتلاف الوطني السوري الجهة المولجة به. الصفعة على وجه النظام لا قيمة تفاوضية لها، ذاك أن الأخير يعيش حالاً من النكران، وهو اليوم يُفكر في غزو الفضاء عبر الوكالة الفضائية التي أنشأها. أما تقدم «النصرة» في هذه المعركة وفي غيرها من المعارك، فيعني أن فصيلاً رئيساً على الأرض خارج الضبط السياسي، وخارج الحسابات الوطنية السورية، يحجز مكاناً له في «مستقبل» سورية. فصيل لا يُشبه العالم بشيء، وصور قادَتِه في «كَسَبْ» تُثير العالم وتصور له ما جرى في هذه المعركة بصفته حرباً بين مجموعات بدائية وأخرى كهربائية (الرجل الشيشاني في مقابل هلال الأسد).
أما العنصر الثالث في جردة نتائج معركة كسب، فهو الرسالة القوية التي وجهتها أنقرة في أكثر من اتجاه. المفاوض السوري ستختلط الأوراق أمامه. فهل يعني «النصر» في كسب انتصاراً للخيار الإخواني التركي- القطري؟ النصر بهذا المعنى سيكون خسارة لحلف خليجي يضم الائتلاف الوطني السوري، والتفاوض عليه سيتم وفق قنوات أخرى فتحتها أنقرة مع طهران ولا يعرف الائتلاف عنها شيئاً. أليس ما جرى في قضية الإفراج عن الراهبات السوريات شيئاً من هذا القبيل؟
|