إذاً بعد ثلاث سنوات تمخضت الديبلوماسية الأميركية فقررت
إغلاق سفارة النظام السوري وقنصليتيه لديها. الإجراء لم يصل إلى حد قطع العلاقات تحت ذريعة كونها علاقات
مع الشعب السوري غير مرتهنة للنظام الحالي، وكأن قطع العلاقات الديبلوماسية يُتخذ عادة كقطيعة نهائية
بين الشعوب!
قبل الإعلان الأميركي كان النظام أوقف تقديم خدماته القنصلية، فلم
يُبقِ عملياً من دور لموظفيه سوى مهمتهم المعهودة في رصد المعارضين وإرسال التقارير الأمنية إلى دمشق،
لذا أتى الإعلان رد فعل على تجاوزه أدنى حدود اللياقة الديبلوماسية. تزامنُ الإجراء مع دخول الثورة
عامها الرابع لا دلالة له، وقد يكون خالياً من الدلالة أيضاً اتخاذه عشية زيارة أوباما للسعودية
المعروفة بتحمسها لإجراءات عقابية شديدة في حق النظام.
من جهة أخرى، قد تأتي
قراءة الإجراء الأميركي على وقع الحدث الأوكراني لتحمّله ما لا تطيقه الإدارة الأميركية. فالمراهنة على
اشتباك روسي- أميركي يمتد من القرم إلى سورية لا يزال أقرب إلى التمنيات، سواء من جهة المتحمسين للنظام
الذين يريدون مكانة لهم توازي مكانة القرم لدى روسيا، أو من جهة المتحمسين لعودة أميركية قوية تطيح
التطلعات الروسية الإمبراطورية. المقارنة مع الحدث الأوكراني ليست خطأ في حد ذاتها، ولكن ربما ينبغي أن
تؤخذ السياسة الفعلية الأميركية في «الجبهتين» بدل التمنيات، ومن المستحسن أن تُقرأ تصريحات الرئيس
الأميركي باعتباره قائد السياسة الأميركية بدل الخوض في التكهنات.
في لقائه
«بلومبـــيرغ فيوز» قبل ثلاثة أسابيع، ذكر أوباما إنه لطالما وجد القـــول إن إيـــران فازت في سورية
مسلياً: «أقصد أنك تســـمع أناساً يقولون أحياناً إنهم يفوزون في سورية، فتجيبهم: كانت سورية صديقهم
الوحيد في العالم العربي، وعضو جامعة الدول العربية، وهي الآن ركام». خصومنا يخسرون من تلقاء أنفسهم
فلماذا نتدخل إذاً؟ لعل هذا هو الفحوى الذي يفسر سياسة أوباما، وهنا قد تنسحب المقارنة على الحدث
الأوكـــراني بدل انتظار تبدلات آتية من هناك. ظاهرياً يبدو أن الروس كسبوا القرم، مع أنها عملياً كانت
تحت سيطرتهم العسكرية المباشرة، لكنهم في المقلب الآخر خسروا أوكرانيا نهائـــياً. بحـــسب منطوق أوباما
السابق، كانت أوكرانيا الحـــديقة الخلـــفية للكرملين ولم تعد كذلك، أما ضم شبه جـــزيرة القـــرم فلا
يعدو كونه جائزة ترضية. لذلك، لن يقابل الغرب روسيا بتصعيد حقيقي كبير ما لم تتعدَّ حدود
القرم.
هكذا، علينا ألا نكترث للتصريحات الروسية الأخيرة، وهي تستلهم بغطرستها
ما عهدناه من إدارات أميركية عديدة. فالقول إن الأميركيين بإغلاقهم السفارة السورية «يحرمون أنفسهم
عملياً من دور الراعي لعملية التسوية» يذكّر بتصريحات أميركية موجهة إلى دول أبدت قليلاً من التعاطف مع
الفلسطينيين، والقول إن الغرب تجاوز الخطوط الحمر في تعاطيه مع الأزمة الأوكرانية يذكّر بالخط الأحمر
لأوباما في ما خص استخدام السلاح الكيماوي السوري.
إجمالاً، لا قيمة للتصعيد
اللفظي الروسي إذا قبل الروس باقتسام أوكرانيا على النحو الذي حصل، ولا أهمية له على الجبهة السورية ما
دامت الإدارة الأميركية لا تسعى جادة إلى تغييرات على الأرض. وحده التهديد الروسي بعرقلة المفاوضات
النووية الإيرانية قد يؤجج الاشتباك بين الطرفين، لا لأهمية هذا الملف لإسرائيل كما يعتقد بعضهم، وإنما
لأن المسّ به على هذا النحو يعرّض استراتيجية أوباما برمتها للفشل الذريع، فضلاً عن أن التهديد رافقه
الإعلان عن اتفاق لإنشاء محطتين نوويتين جديدتين في إيران.
وفق تصريحات أوباما
المشار إليها أعلاه، الإيرانيون «إستراتيجـــيون وغير متـــهورين، لديهـــم نظــرة عـــالمية، ويرون
مصالحـــهم، ويتعاملـــون مع حـــسابات الربح والخسارة». أتى ذلك في معرض رده على أيهما أخطر، التطرف
السني أم الشـــيعي؟ معلوم أن حمـــاسة أوباما للتطبيع مع إيران لم تخفف معارضة إسرائيل أو حلـــفائه
الــعرب لذاك التطبيع، أو المعارضة التي يلقاها في الكونغرس الأميركي، وهو يعوّل كثيراً على عقلانية
القيادة الإيرانية لإثبات صواب رأيه.
لعلنا لا نجافي الواقع بالقول إن الجائزة
الكبرى التي ينتظرها أوباما في ما تبقى من ولايته هي إيران، وفي الملف الإيراني تحديداً قد ينفجر
الاشتباك الروسي- الأميركي، إذا رأت موسكو تقارباً أميركياً- إيرانياً على حساب تحالفها الوثيق مع
طهران. جنت روسيا مكاسب هائلة من العقوبات الغربية على إيران، منها ما هو سياسي ومنها ما تبرزه الأرقام
عن القفزة الهائلة في التبادل الاقتصادي بين البلدين. نجاح إستراتيجية أوباما من المنتظر أن يؤدي إلى
توجه الاقتصاد الإيراني غرباً، وأن يؤدي إلى تفاهمات إقليمية على النفوذ. سورية لن تكون أكثر من جائزة
ترضية في هذا الميزان، شأنها في ذلك شأن القرم.
لقد أشهر الروس في مناسبات
عديدة عجزهم عن دفع الأسد إلى التنحي، بخلاف عدم رغبتهم في تنحيه، الأمر الذي لم يمنع إدارة أوباما من
تحميلهم وزر فشلها هي في الملف السوري، مع تغاضيها الفاضح عن الانخراط الإيراني في الحرب، وعن قدرة
إيران وحدها على الإيفاء بما هو مطلوب من روسيا في الحل السياسي. ذلك لأن إســـتراتيجية أوباما قائمة
على استمالة إيران وانتزاعها من طموحها النووي، وتحالفها الوثيق مع روسيا في الوقت ذاته، ولا بأس إنْ
تطلّب نجاحها تحقيق إيران لانتصارات عسكرية في سورية كنوع من إبداء حسن النية
تجاهها.
غني عن القول إن إيران تكسب بسبب أهميتها المفرطة في استراتيجية
أوباما، وأيضاً بسبب أهميتها للطرفين في حال تصاعد الخلاف الروسي- الأميركي، غير أن ما تكسبه في سورية
لا يُعدّ خسارة للإدارة الأميركية، فالأخيرة لم تستثمر رصيداً كبيراً ولم تكن سورية من مواقع نفوذها
يوماً. على العكس، أتت الثورة السورية بمثابة هدية مجانية تضغط بها الإدارة على إيران مستخدمة إحجامها
عن التدخل، أو تقديم الدعم الملائم فحسب. لذا ليس منتظراً أن تغيِّر سياستها تجاه الملف السوري ما دامت
المفاوضات مستمرة مع إيران، فوق الطاولة وتحتها. وماذا لو تحوّلت سورية بأكملها إلى ركام في أثناء
التفاوض؟
إنه لقول مسلٍّ فقط.
|