التاريخ: آذار ٢٠, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
مواكب الدموع وانهيار المُتحد السياسي في مصر - طارق أبو العينين
لا يكـاد يـمر يـوم على مصر من دون أن تـشـيِّع بعـضاً من أبنائها وآخرهم الجنود الستة الذين قضوا إثر عملية إرهابية استهدفت مكمناً للجيش في منطقة مسـطرد (شمـال القاهرة) فـمـواكب الـدمـوع المـصـرية كانت ومازالت نتـاجـاً طـبـيعـياً لدوران عجلة العنف الدمـوي التي خلَّفت منذ بداية الأزمة السياسية آلاف القتلى الذين قضوا، إما بفعل الإرهاب أو بفعل عنف الدولة المفرط في مواجهة الاحتجاجات. ولعل المـفـارقـة اللافتـة هنا أن كثيرين باتوا يعتبرون الدولة رخـوة في محاربة الإرهاب، رغم أنها أخرجت كل ما في جعبتها من وسائل وأدوات سلطوية لمحاربته كهدف مشروع أو لقمع المعارضين كهدف غير مشروع. ومـن ثـم فإن التعاطي مـع ظـاهرة مواكب الدموع المـصـرية باعـتبـارهـا نتـاجاً لدولة رخوة فشلت في مواجهة الإرهاب أمنياً من دون النظر إلى الأزمة في إطارها السياسي الأوسع يعني تأبيداً لجدلية الدولة القمعية الفاشلة أمنياً.

وفي سياق كهذا تجدر الإشارة إلى كتاب صموئيل هنتنغتون «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة»، وهو أول عمل بحثي تحدى الأطروحة الكلاسيكية لمنظري التحديث التي اعتبرت أن التطور الاقتصادي والاجتماعي كفيلان بتحقيق تحول ديموقراطي ناجح في دول العالم الثالث وذلك انطلاقاً من المقارنة بين نمط الدولة الفاعلة ونمط الدولة الرخوة. فقوة الدولة لم تقترن -وفقاً لهنتنغتون- بالتفرقة التقليدية بين نظام ديكتاتوري ونظام ديموقراطي. فالفروق بين كلا النظامين ضعيفة، من وجهة نظرة مقارنة بالفروق ما بين دول فاعلة يتجسد في نظامها السياسي مفاهيم كالإجماع والاتفاق والتنظيم والفاعلية والاستقرار وبين دول رخوة تعاني عجزاً على هذا الصعيد. فدول كبريطانيا وأميركا والاتحاد السـوفياتـي السـابق قد تمثل ثلاثة أنماط مـختلفة من الحكم، لكنها تحكم بفاعلية نظراً لوجود مُتحد سياسي فيه إجماع عام من الشعب على شـرعية الـنظـام السياسي مـع وجـود مؤسسـات سـياسية قوية ومتـكـيفة ومـتـماسكـة وبـيـروقـراطيـات فاعلة وأحزاب سياسية حسنة التنظيم ورقابة مدنية على أنشطة القوات المسلحة. فبفعل كل ذلك تختلف تلك الدول الفاعلة عن دول العالم الثالث الرخوة المُعصرنة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

يمكن القول إذن إن تلك الاستمرارية التاريخية لانهيار المُتحد السياسي وما رافقها من ضعف مؤسسي وفساد بيروقراطي وهـشاشـة في بـنـيـة الأحـزاب وتآكل لفكرة الرقابة المدنية على أنـشطة القوات المسلحة، تـعـد في مـجـملها أسـبـابـاً رئيسية لرخاوة الدولـة المـصـريـة وعـجـزها عن مواجهة الإرهاب الأصولي. إلا أن الدولة لا يمكن أن تتحمل وحدها مسؤولية انهيار المُتـحـد الـسـياسـي بين الـمـصريـين ومـا ترتـب على ذلـك من تـداعيات. فمفهوم المُتحد السياسي كما أشرنا آنفاً تدشن انطلاقاً من تجاوز التفرقة الأيديولوجية التقليدية بين نظام وآخر والتركيز بدلاً عن ذلك على فكرة الإجماع العام المصحوبة بفاعلية دولتية ومدنية وحزبية. وهو ما حدث عكسه - للأسف - خلال تجربة التحول الديموقراطي الفاشلة في مصر.

فالنخبة السياسية المصرية أدرجت الدولة ومؤسساتها ضمن أجندة صراعها السياسي، وهذا المسلك وضع الدولة إما في مواجهة الأيديولوجيا، كما حدث ويحدث في حالة جماعة الإخوان المسلمين، أو في خدمة الأيديولوجيا، كما حدث في حالة تحالف «30 يونيو» الذي انضم إلى ركب الدولة العميقة لتصفية خصومه الإسلاميين. وهو ما كانت محصلته النهائية رخاوة تلك الدولة وعجزها عن تطبيق القانون في عهد محمد مرسي وبعد سقوطه، وذلك بفعل غياب الشرعية القانونية والأخلاقية عن ممارساتها، وما ترتب على ذلك من انهيار لقيمتي العدل والمساواة مع إيغال تلك الدولة في نظرتها الأحادية ومعاييرها المزدوجة تجاه مواطنيها التي تولدت بفعل طغيان الأيديولوجيا وانهيار المُتحد السياسي بين المصريين.

ولذلك فإن نهاية ظاهرة مواكب الدموع لن تتحقق بمزيد من البطش السلطوي، ولكن بحدوث تغير بنيوي في نظرة الفاعلين السياسيين المؤدلجين تجاه مشروع الدولة الجديد المأمول بغية تجاوز العقبات والأخطاء التي أفـشـلت التحول الديموقراطي وأنهكت الدولة. فالحكمة الفلسفية أرشدتنا إلى أن البناء المتماسك لمجتمع أو لنظام انطلاقاً من مبادئ كلية، يجب أن يقترن بقدر من التنازل عن الميول والنوازع الذاتية. وهو ما أكدته الفلسفة الهيغلية عندما رصدت العلاقة بين القانون اللامتناهي للذات الذي تعبر عنه هنا تفضيلات الأيديولوجيا وبين المبدأ العام الذي تعبر عنه الدولة في السياق ذاته. فهيغل شبَّه عملية تشييد كيان قيمي عام وشامل ببناء المنزل الذي يحتاج إلى عناصر عدة مستقلة، كالماء والنار والريح، تعادل موضوعياً النوازع الذاتية للقوى المختلفة التي تشكل هذا الكيان عند تأسيسه. إلا أن هذا المنزل كي يتحقق هنا بوصفه كياناً عاماً يجب أن يجابه بعد تأسيسه النار والريح والماء ليحمي قاطنيه. ومن ثم فإن تلك الصيغة الشاذة والمريضة للعلاقة بين النخبة المؤدلجة والدولة والتي سيكون مآلها سقوط الدولة لحساب أيديولوجية الإخوان، أو موت الأيديولوجيات بالمجمل لحساب النخبة البيروقراطية، يجب تفكيكها لحساب صيغة ديموقراطية عقلانية علمية توازن بين نخبة السياسة المدنية بأطيافها كافة، وبين نخبة الدولة البيروقراطية وتنفخ الروح من جديد في المُتحد السياسي للمصريين الذي تشكل في الشوارع أثناء ثورة 25 يناير.

* كاتب مصري.