التاريخ: آذار ٢٠, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
سورية بين أحداث 1979 - 1982 وثورة 2011 - 2014 - محمد سيد رصاص
في أحداث حزيران (يونيو) 1979 - شباط (فبراير) 1982 في سورية، كانت الذخيرة البشرية لـ «الإخوان» تأتي من فئات وسطى متعلمة في أحياء تقليدية (الكلاسة وباب الحديد والجميلية والفيض في حلب - الحاضر والكيلانية بحماة - الصليبة ومشروع الصليبة والطابيات والعوينة في اللاذقية) كانت متضررة من المسار الاقتصادي – الاجتماعي الذي بدأ منذ 8 آذار (مارس) 1963، وبعضها، مثل حلب واللاذقية، كان قاعدة الاستناد الاجتماعية التي ارتكز عليها الناصريون في صدامهم مع البعثيين إثر انفكاك مشاركتهم في السلطة منذ 18 تموز (يوليو) 1963 الذي شهد محاولة انقلاب العقيد جاسم علوان المدعومة من القاهرة.

دولياً – إقليمياً، خلال أحداث 1979 - 1982 استند نظام الرئيس حافظ الأسد إلى الريف والمدن والبلدات الصغيرة وإلى تجار دمشق، في ظل غطاء دولي امتد من موسكو إلى واشنطن مروراً بلندن وباريس وكذلك إلى دعم الرياض، فيما كان «الإخوان» يستندون إلى بغداد وإلى حد «ما» إلى الملك الأردني حسين، وكان الوضع الاقتصادي قوياً ومستقراً ولا أزمة اقتصادية يمكن أن تكون وقوداً للحراك السياسي. في أزمة 2011 - 2014 كانت السلطة السورية مدعومة من طهران ومن موسكو و «مجموعة دول البريكس»، فيما كان هناك دعم للمعارضة من واشنطن - أنقرة - الدوحة - الرياض مع ظهير أوروبي تركز في باريس.

في حركة الاحتجاجات (البادئة في درعا) التي شهدتها سورية منذ 18 آذار 2011، هناك صورة جديدة: سكون احتجاجي في حلب، ومثيل له في مدينة دمشق ما عدا شيئاً من الحركة الاحتجاجية في حي تقليدي «الميدان»، مع حركة احتجاجية قوية في حي مثل برزة كان حتى السبعينات مجموعة بساتين يتوسطها مزارعون في حي صغير قبل أن يأتي قاطنون من الأرياف.

في بلدات محافظة ريف دمشق الصورة مختلفة: حركة احتجاجية قوية في بلدات دوما وحرستا وداريا والمعضمية، مع سكون في بلدات يبرود ودير عطية والنبك لم يبدأ بالتحرك إلا مع أشكال مسلحة في يبرود في عام 2013، مع احتجاجات أخذت منحى صاخباً في منطقة الغوطة الشرقية «سقبا والمليحة» حيث أضيف إلى تدهور الزراعة تضرر صناعة المفروشات، وهي حرفة تقليدية هناك منذ مئات السنوات، نتيجة منافسة المستوردات التركية في السنوات الأخيرة. في مدينة درعا، وفي حوران بريفها وبلداتها، هناك احتجاجات شاملة لا توازيها كصورة سوى محافظة إدلب، حيث يبدو أن تدهور الزراعة وضعف الاستثمار الحكومي يؤديان إلى هجرات من درعا وحوران نحو دمشق، كذلك من محافظة إدلب نحو مدينة اللاذقية حيث يشكل الآتون من هناك، (يسمون في اللاذقية «الشريقية»)، ما يفوق ربع سكان المدينة، وهم العصب الاجتماعي لحركة الاحتجاج في تلك المدينة الساحلية من خلال أحياء «بستان الصيداوي والسكنتوري والرمل الجنوبي»، وبحيث أصبح مركز حركة الاحتجاجات في عام 2011 ضد نظام البعث لأول مرة في اللاذقية في تلك الأحياء التي هي أقرب إلى العشوائيات، ولم يعد في حي الصليبة، كما كان الأمر في تموز 1963 ونيسان (أبريل) 1973 وأيلول (سبتمبر) 1979.

في مدينة حمص الصورة مختلفة، حيث يجتمع حي، هو «باب عمرو»، كان حتى الثمانينات بساتين على أطراف المدينة، مع أحياء تقليدية مثل «باب السباع والخالدية»، لكي تشكل المركز الاجتماعي للاحتجاجات، مع صورة جديدة تقدمها حمص حيث ظهر في الأحداث أن فئاتها الوسطى وشريحة كبرى من تجارها دخلت في خط الاحتجاجات، وهو شيء لا يلمس في اللاذقية مثلاً، فيما يمكن ملاحظته في حماة 2011، كما يمكن ملاحظة توحد بلدات تلبيسة والرستن مع حمص وحماة في تشكيل مراكز للحركة الاحتجاجية، وهو ما يمكن ملاحظته أيضاً في مركز محافظة دير الزور وبلداتها «البوكمال والميادين»، الأمر الذي يشبه وضع محافظتي درعا وإدلب، حيث تعاني هذه المحافظات الثلاث من تدهور الزراعة وضعف الاستثمارات الحكومية، فيما يمكن القول إن محافظة الحسكة التي تعيش وضعاً اقتصادياً وخدماتياً مشابهاً لهذه المحافظات الثلاث، قد أدى تنوعها القومي، وحساسيات أحداث آذار 2004، إلى أن يكون مركز الاحتجاجات في القامشلي ورأس العين وعامودا حيث الغالبية السكانية كردية، وليس في مدينة الحسكة ذات الخليط العربي والكردي، وحيث يوجد الكثير من المسيحيين، وبالذات من السريان، أظهروا في أحداث 2011، مثل باقي مسيحيي سورية، تأييداً قوياً للسلطة القائمة.

في سورية 2011 ثلاث محافظات هادئة في شكل ملحوظ: طرطوس، والسويداء، والرقة حيث الزراعة ما زالت محافظة على مردودها عند سد الفرات. في حلب يمكن تفسير الهدوء الاحتجاجي مثل الرقة، وعزوه إلى الاقتصاد، فيما يمكن قول العكس عن مدينة حمص التي تحولت كل الطرق الرئيسية السورية، بين الساحل ودمشق وبين الأخيرة وحلب ومن المنطقة الشرقية ودمشق، عن المرور في وسطها، لأوتوسترادات خارج حمص أو بعيداً عنها، فيما كانت حتى أواسط الثمانينات تمر في داخل المدينة وتنعش أسواقها، وهو ما زادت مفاعيله السلبية مع تمييزات في الوظائف لغير مصلحة أبناء مدينة حمص فيما كان عمل إدارة المحافظة في السنوات الأخيرة قبل 2011 غاية في الفساد.

في سورية 2012: انفجر الوضع في حلب من خلال غزو مسلحي الريف المدينةَ في تموز وسيطرتهم على أحيائها الشرقية، فيما كانت مدينة حلب خلال ستة عشر شهراً من الاحتجاجات السورية هادئة وتنأى بنفسها عنها وكان جسمها الاجتماعي بغالبيته أكثر تأييداً للسلطة. في الرقة كان الوضع كذلك حتى آذار 2013 عندما دخلتها تنظيمات مسلحة أتت من الأرياف وسط سلبية السكان الرقاويين المدينيين. في دير الزور في آب (أغسطس) 2012 سيطر المسلحون الآتون من الريف غالباً على قسم كبير من أحيائها ولكن الفرق عن حلب ثم الرقة، أن دير الزور كانت في 2011 كمدينة مركزاً لحركة احتجاجية سلمية ناشطة. في حماة 2012 - 2013 - 2014 التي قدمت في عام 2011 أكبر التجمعات لتظاهر سوري سلمي، كان هناك نأي حموي مديني عن تأييد العمل المسلح على الأرجح أنه نتيجة دروس شهر شباط 1982 مع ميل حموي عام نحو التسوية. في مدينة اللاذقية في أعوام 2012 - 2014، هناك سكون وميول كبيرة نحو التسوية.

خلاصات

في شكل عام، يمكن القول إن في عام 2011 حركة احتجاجية سورية تستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة من الطائفة السنّية، ولكن، في الأرياف والبلدات الصغيرة وفي بعض المدن، مثل درعا وحمص وحماة ودير الزور، مع تأييد ملحوظ للسلطة بين تجار السُنّة وصناعييهم وأغنيائهم، وتردد كبير بين فئات وسطى سُنّية يمكن تلمسه بقوة في دمشق وحلب واللاذقية، بخلاف حمص وحماة، أصبح يميل هذا التردد في عام 2014 نحو السلطة وأي تسوية للأزمة: في سورية 2011 - 2014، ظهر أن الطائفة الوحيدة التي كانت مقسومة على أساس طبقي، أي اقتصادي - اجتماعي، بالتالي سياسي، كانت هي الطائفة السُنّية (75 في المئة من مجموع السكان)، وهي لم تتصرف كطائفة، فيما كانت الأقليات (علويون - مسيحيون - دروز - إسماعيليون - شيعة اثنا عشرية) موحدة ككتل صلبة مع النظام، مع استثناءات هي أقرب إلى الحالات الفردية، وهو ما ينطبق على الأكراد (7 - 9 في المئة من السكان وهم سنّة) الذين ظهروا كأقلية وحيدة وقفت في المعارضة، كجسم اجتماعي، وأيضاً ككتلة موحدة صلبة.

وأكثر ما يلفت النظر في سورية 2011 - 2014 «والمجتمعات عندما تحصل فيها زلازل تظهر فيها أيضاً حالة باطن التربة»، هو ذلك التماهي الكبير الذي ظهر بين الطائفة، والدين، والإثنية، وبين الميل أو الموقف السياسي عند غالبية كاسحة في تلك الطائفة أو الدين أو الإثنية أثناء عملية تشكيل الميل أو الموقف السياسي، مع تسجيل الاستثناء الكبير الذي مثّله السنّة العرب حيث انقسموا وتوزعوا على أساس طبقي «اقتصادي - اجتماعي» بين المعارضة والموالاة للسلطة، مع نسبة كبيرة من المترددين. هذا التماهي لم يكن بهذه القوة في أحداث 1979 - 1982، حيث كان الانقسام السياسي يمتد على أسس من الأيديولوجيات الحديثة (القومية العروبية - الماركسية) بين ثنايا المجتمع السوري جميعها، وعندما حاول «الإخوان المسلمون» في تلك الأحداث التعبير الطائفي السنّي في حركتهم السياسية ضد السلطة، فإن غالبية كبرى من سنّة سورية لم تؤيدها، كما أن الأقليات كان الكثير من أفرادها ينشط في الحركات المعارضة وفي قياداتها ودخل الكثير منهم السجون في عقد الثمانينات، فيما كانت أكثرية عظمى من الأقليات في أزمة 2011 - 2014 مؤيدة للسلطة، ما عدا الأكراد الذين تحركوا أثناء ضعف السلطة لفرض واقع جديد على الأرض، كما جرى في عراق 1991 - 2003، فيما كانوا في 1979 - 1982 من دون مشاركات فعالة في موقف المعارضة ولا الموالاة.

الأمر الثاني الذي يلفت الانتباه، هو اتجاه الجسم الاجتماعي المعارض الذي يتحرك بدوافع اقتصادية - اجتماعية - ثقافية، إلى أن يعطي لحراكه مساراً سياسياً، وليس مطلبياً، منطلقاً من اعتبار أن باب البيت هو السياسة وأن غرفه هي «الاقتصاد» و «الاجتماع» و «الإدارة» و «القانون» و «الحياة الفردية»، بالتالي فإن السياسة هي المفتاح والباب إلى كل تلك الغرف، وهذا أمر مثير للملاحظة والدرس عند مجتمع كان في حالة صمت عن السياسة لتسعة وعشرين عاماً، ثم كسر صمته بدءاً من 18 آذار 2011.

الأمر الثالث: في خلفية أزمة سورية 2011 - 2014 هناك أزمة اقتصادية وخراب للزراعة وظهور ملامح من الانقسام الاقتصادي - الاجتماعي بين أغنياء وفقراء مع اتجاه واضح في فترة 2000 - 2010، نحو اضمحلال عددي في الفئات الوسطى عبر نزول أقسام كبيرة منها نحو خط الفقر. كان مركز الاحتجاجات في الأرياف وفي المدن والبلدات الصغيرة والمحافظات المهملة (إدلب - دير الزور - درعا)، مع استثناء مديني كبير في حمص. ربما وعلى الأرجح أن هذا هو السبب في أن تكون أزمة 2011 - 2014 أكثر امتداداً في المجتمع وأقوى تأثيراً في السلطة مما جرى في 1979 - 1982 حيث لم يكن، هناك أزمة اقتصادية، وكان الريف مزدهراً في إنتاجه الزراعي وهو ما جعل آنذاك حركة «الإخوان المسلمين» محصورة في أحياء مدينية محددة في حماة وحلب واللاذقية مع انتشار في ريف وبلدات محافظة إدلب (ما عدا مدينة إدلب) نتيجة ضعف الاستثمار الحكومي والتهميش الذي عاشته محافظة إدلب عموماً في عقد السبعينات. على الأرجح أيضاً، وفي ظل ضعف الأيديولوجيات اليسارية القومية والماركسية، وفي ظل المد الذي يعيشه التيار الإسلامي السياسي منذ أواسط السبعينات، أن الطابع الريفي الغالب على احتجاجات 2011 هو الذي جعلها تأخذ طابعاً سلفياً إسلامياً، وهو ما نلاحظه كذلك في مصر وتونس حيث السلفيون أقوى في الريف المهمش، أو في الأحياء المدينية الفقيرة التي تتشكل أساساً من وافدين ريفيين جدد، على حساب حركة «الإخوان المسلمين» التي هي تعتمد على قواعد مدينية غالباً من فئات وسطى متعلمة، والتي جعلتها هزيمتها في أحداث 1979 - 1982 تنظيماً خارجياً سورياً، ولم يأت نفوذها في مجلس اسطنبول سوى من اعتمادها على محور تركي - قطري. كما أن الطابع الأيديولوجي السلفي هو الذي جعل الإمكانية أكبر سياسياً وأيديولوجياً نحو الوقوع في حفرة العنف الإسلامي المسلح في سورية 2012 - 2014، وهو ما يلاحظ كذلك في جزائر التسعينات بعد الانقلاب العسكري في 11 كانون الثاني (يناير) 1992 على المسار الانتخابي الذي فازت به الحركة «الإخوانية» بجولته الأولى في أواخر عام 1991، وقبيل أيام من الجولة الثانية للانتخابات.

الأمر الرابع: في سورية، وعبر مقياس هزّتي 1979 - 1982 و2011 - 2014، لا توجد أزمة طائفية كما الأمر في لبنان وفي عراق ما بعد 9 نيسان 2003، بل هناك اصطفافات سياسية عابرة للطوائف ولا تتحدد عبرها، وهذا أكثر ما يلاحظ عند السنّة الذين أظهرت أقسام كبرى منهم، خصوصاً من الأغنياء والفئات الوسطى، تأييداً للسلطة التي بان بأن ارتكازاتها الاجتماعية ليست طائفية، بل عابرة للطوائف وللأكثرية والأقليات، فيما لم يستطع الإسلاميون المعارضون، في تلك التجربتين الكبيرتين، أن يستقطبوا غالبية سنّة سورية الذين وقف قسم كبير ووازن منهم مع السلطة السورية القائمة في 1979 - 1982 و2011 - 2014. وعلى الأرجح أن فشل المعارضة الإسلامية في أزمة 2011 - 2014، سيؤدي إلى دخول التيار الإسلامي في حالة جزر، خصةوصاً بعد انفضاض اجتماعي كبير عن الإسلاميين نتيجة سلوكهم في المناطق التي سيطر عليها المسلحون، وسيؤدي إلى انتعاش جديد للتيارات اليسارية والعلمانية، خصوصاً مع فشل الإسلاميين بمصر 2012 - 2013، حيث دائماً ومنذ العام 1919 تتبع دمشق القاهرة في الاتجاه العام.


* كاتب سوري