يسير لبنان، في شكل متعرج وبطيء، لكن بثبات، نحو تغيّر في معادلاته الداخلية، مع ما يعنيه هذا التغير كانعكاس للوضع الإقليمي والتغيّر في معادلاته ايضاً. ولعل أهم ظواهر هذا التغّير هو تمكن «حزب الله» من قضم حصة جديدة من خصومه في كل حدث كبير في البلد، فاغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، العام 2005، كانت نتيجته «ورقة التفاهم» بين الجنرال ميشال عون و «حزب الله»، وتحوُّل التيار الوطني الحر الى رديف للحزب، بعدما كان من أشد خصومه في التكتيك والإستراتيجية. وبعد أحداث 7 أيار العام 2008، بدأ تحوُّل زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط نحو التهدئة ثم التحالف مع «حزب الله»، بعدما قاد الزعيم الدرزي معركة «نزع القداسة» عن هذا الحزب وأمينه العام السيد حسن نصرالله ومرجعيته في إيران. ومع أزمة المحكمة الدولية أمام حكومة سعد الحريري، استقطب «حزب الله» نجيب ميقاتي وأقنعه بترؤس حكومة جديدة، ليتحول الحليف الانتخابي لتيار المستقبل في طرابلس الى مدافع عن نظرية «حزب الله» في المحكمة، مع كل ما يعنيه ذلك من مضاعفات داخلية.
قد يكون لكل من عون وجنبلاط وميقاتي دوافعه ومعطياته في الانتقال من ضفةِ مناهَضةِ سياسة «حزب الله» الى ضفة التحالف معه، لكن الواقع يؤكد أن هذا الانتقال يعكس مزيداً من إضعاف الطرف الآخر في المعادلة اللبنانية، والممثل بقوى 14 آذار، وعمودها الفقري تيار المستقبل، إن لم يكن على مستوى التمثيل الشعبي فعلى الأقل على مستوى عمل مؤسسات الدولة. وعلى هذا المستوى تظهر، في شكل اساسي، ظواهر التغيّر الذي أصاب الوضع اللبناني، إذ فقد كل من السلطة التشريعية والتنفيذية مرجعيته الدستورية، وبات محكوماً بالاعتبارات السياسية للطرف القادر على القضم والمالك للقوة المسلحة، اي «حزب الله».
وهذا ما يفسر التعسُّر في تشكيل حكومة ميقاتي، بعدما أعلنت قوى 14 آذار عدم مشاركتها فيها وانتقالها الى المعارضة، اذ في طيات هذا التعسر يكمن تغيير الدور المنوط برئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ودورهما. ومن هنا يُفهم الدور المتضخم الذي يطالب به عون في تشكيل الحكومة وتسمية اعضائها، على حساب رئيسها ورئيس الجمهورية معاً، فالقضية تتجاوز شهية الاستيزار لتطول الدور الدستوري للموقعَيْن الاساسيَّيْن في السلطة التنفيذية، وتالياً الركيزة الأساسية للدستور واتفاق الطائف، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تأزيم للعلاقات بين الطوائف والمذاهب، اذ ان كل غلبة لطائفة او مذهب هنا ستكون على حساب طائفة او مذهب هناك.
وإذا كان للدور العوني نكهة خاصة في هذه السيرورة، نظراً الى تمسكه بالقول انه يمثل المسيحيين، فإن هذا التمسك يستهدف بالضبط الدور الدستوري للتمثيل المسيحي عبر رئاسة الجمهورية. كما يستهدف تمسكه بالكلمة العليا في تشكيل الحكومة الدور الدستوري للتمثيل السُّني عبر رئاسة الحكومة. إذاً، الجدل حول المحكمة الدولية يقع في هذا الاطار، اذ ان الطرف الرافض لها والدافع في اتجاه وقف الدولة اللبنانية التعامل معها، هو نفسه الطرف الذي يستفيد من التغيّر في المعادلة الدستورية الداخلية، لا بل قد يكون من الصعب جداً وقف هذا التعامل من دون هذا التغيّر الذي تمر عبره مراجعة الالتزامات الدولية. وربما هذا ما يفسر الاهتمام الاستثنائي بالمحكمة، رفضاً أو قبولاً، من «حزب الله» وخصومه على السواء، لأن الجميع يدرك انها ستحدد مسار التغيّر في الوضع اللبناني، بعد عمليات القضم التي نفَّذها «حزب الله»، وستكون المعركة الاخيرة في المواجهة الحالية.
|