التاريخ: تشرين الأول ٩, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
من يوميات الانتفاضة السورية: وقائع الاقتحام الأمني الأول لبانياس
"يا قرد، بحياتي ما شفت هيك قوة قلب"

محمد أبي سمرا

 

يروي هذا الجزء من يوميات الانتفاضة في بانياس، شاب شارك في تظاهرات أهالي المدينة المتتالية منذ 18 آذار. والرواية هذه تنقل وقائع اقتحام رجال الأمن المدينة في 2 نيسان الماضي.

بعد قليل من وصولي الى بيتنا حوالى الساعة الثانية من ليلة الجمعة – السبت 2 نيسان، انقطع التيار الكهربائي وكل أنواع الاتصالات عن بانياس، فدب الذعر في نفوس الأهالي الذين كان معظمهم لا يزال ساهراً في البيوت. خرجت من بيتنا وجلت في الشوارع القريبة المعتمة، التي سرعان ما راح يتكاثر فيها رجال وشبان وفتيان أخرجهم من بيوتهم الخوف من توقع هجوم رجال الأمن والشبيحة على أحياء المدينة. مع تكاثر الناس على مداخل الأحياء، وسريان شائعات عن أن الهجوم الأمني سيبدأ عند الفجر، فتضاعفت موجات هلع النساء في البيوت، وانبعثت في نفوس كثيرين ومخيلاتهم صور هاجعة تعود الى مقتلة حماه في العام 1982.


هلع الفجر وقتلى النهار
عند صلاة الصبح في المساجد، قام مجند سابق في الجيش – وهو من الشبان الناشطين في التظاهرات – بجولة سريعة في شوارع المدينة، فمر في ساحاتها، ثم عاد الى مداخل الأحياء معلناً للرجال والشبان على الحواجر، أنه لم يبصر أثراً لرجال الأمن والشبيحة، وأن لا شيء ينبئ بهجومهم المتوقع، فبادر كثيرون من الرجال والشبان الى نزع الحواجر، من دون أن يغادروا مداخل الأحياء. لكن في حوالى الساعة الخامسة صباحاً، فوجئ الناس بسبع سيارات مليئة بعناصر الأمن والشبيحة المسلحين، تنطلق في سرعة قصوى في بعض من الشوارع، مطلقة زخات متتالية من الرصاص العشوائي في اتجاه البيوت والبنايات. كنت في جامع القبيات، فخرجت منه بعد هنيهات من سماعي رشقات نارية، فلمحت سيارة الأمن تبتعد مسرعة، تاركة خلف المسجد أربعة جرحى إصاباتهم طفيفة في أرجلهم أو أذرعهم، فنقلوا الى أحد مشافي المدينة. لكن إطلاق زخات الرصاص العشوائي لم يتوقف، فإحدى سيارات الأمن خلّف مرورها قرب جامع أبو بكر الصديق ثلاثة جرحى، منهم أسامة الشيخة الذي توفى بعد أسبوع في المستشفى، متأثراً بجروحه البالغة، وهو الشهيد الأول في بانياس. بعض من الرجال والشبان أطلقوا النار من بنادق الصيد والبنادق الحربية القديمة على سيارات رجال الأمن التي مرّت مسرعة وأطلقت زخاتٍ من الرصاص على البيوت، من دون أن يعلم أحد من الأهالي إن كان أي من رجال الأمن قد أصيب، مع إستمرار غاراتهم السيارة ورشقات نيرانهم العشوائية الغزيرة على البيوت، حتى حموة الشمس على شوارع المدينة شبه المقفرة والمزروعة بالخوف وأزيز الرصاص وبأصدائه المدمدمة. وفي حوالى الساعة العاشرة بدأت تبتعد أصوات الرشقات النارية وتتخافت أصداؤها، بعد مواجهة حصلت على الأوتوستراد عند طرف المدينة، بين مجموعة من شبان المدينة المسلحين ورجال الأمن والشبيحة المنسحبين في سياراتهم التي تركوا منها إثنتين على الأوتوستراد وفروا في السيارات الخمس الأخرى. وهذا ما حمل جموعاً من شبان بانياس ورجالها على إدخال السيارتين الأمنيتين الى ساحة السنتر – التحرير، وإضرام النيران فيهما، فكتبوا على إحداهما، بعد احتراقهما وخمود النار: انتبه أنت في بانياس لا في إسرائيل.


احتلال المستشفى
ابتداء من الساعة الثانية ما بعد ظهر السبت، 2 نيسان، أخذت مجموعات من رجال الأمن والشبيحة تتكاثر في حي القوز العلوي على طرف المدينة، قريباً من محلة تدعى رأس النبع. وبعد حوالى نصف الساعة شاهد الأهالي وحدة من الجيش النظامي تتقدم على الأوتوستراد، وتتوقف غير بعيد من رأس النبع. لم تكن الوحدة التي يبلغ عدد جنودها نحو المئة، تستعمل دبابات ولا مصفحات، بل سيارات عسكرية صغيرة وناقلات جند، وعلى رأسها عقيد، شاع بين الأهالي أنه حرّك الوحدة من دون أمر عسكري من قيادة الجيش، بل بالتعاون مع أجهزة الأمن والشبيحة، وكي يظهر ولاءه للقيادة السياسية العليا في البلاد، وينال حظوتها. وسرعان ما أخذ جنود الوحدة العسكرية – الذين شوهد بعضهم عراة الصدور إلا من قمصان داخلية بيضاء – يطلقون النار، تارة في اتجاه رأس النبع وحي القوز العلوي، وطوراً في اتجاه حي القلعة السني، الذي يتوسطه جامع الرحمن. ثم لم يلبث قناصون من الشبيحة والأمن، أن شرعوا باطلاق نيران قناصاتهم على حي القلقة، من حيث يتمركزون على سطوح البيوت في حي القوز، فدار إطلاق النار بين الحيين، العلوي والسني، وشارك فيه جنود الوحدة العسكرية. وحتى الساعة السابعة مساء، كان قد قتل من شبان حي القلعة أربعة شهداء، وجُرح خمسة آخرون من الاهالي، فنقلوا، وسط انطلاق التكبير من مساجد بانياس، الى المستشفيين في المدينة، وفي الأثناء، وفقاً لرواية شاب أعرفه، أطلق العقيد، قائد الفرقة العسكرية، النار على ستة من جنوده رفضوا أوامره، فأردى ثلاثة منهم، وجرح ثلاثة آخرين، قبل أن يبادر أحد الجنود بإطلاق النار على العقيد. وروى الشاب أيضاً أنه استطاع، مع رفاقه، نقل الجنود الجرحى الى المستشفى الحكومي، قبل أن يهاجمه رجال الأمن والشبيحة، ويقتلوا الجرحى فيه، ويحتلوه ويحولوه مقراً أمنياً أو عسكرياً لهم. أما المستشفى الآخر في بانياس – وهو بدائي التجهيز، ويدعى "مستشفى البر والخدمات الاجتماعية"، وتديره جمعية أهلية – فاكتفى رجال الأمن والشبيحة باطلاق زخات من رصاص بنادقهم عليه بين وقت وآخر. وهذا ما حمل شباناً من المدينة على وضع شاحنتين أمامه، لحمايته من الرشقات النارية. في نشرة أخبار التلفزيون السوري الرسمي التي تذاع في الثامنة مساء، قال بيان عسكري إن ضابطاً من الجيش قتل في بانياس، وإن ضابطاً آخر أصيب وبترت رجلاه. والضابط هذا روى في مقابلة مصورة بثها التلفزيون السوري مساء الأحد 3 نيسان، أن أحد الشبان "القبضايات" في بانياس هاجمه بحزمةٍ من الديناميت قذفها داخل سيارته. وبلهجته العلوية الموصوفة التي لا تخفى على السوريين، قال الضابط المبتور الرجلين: "قرد، بحياتي ما شفت هيك قوة قلب. فتح (الشاب) باب السيارة (التي كنت في داخلها) وحط ضرب الديناميت، وسكر الباب، وهرب، يا قرد".


هرب العلويين والحصار
مساء ذلك السبت، 2 نيسان، خلا حيا العلويين في بانياس، القصور والقوز، تماماً من سكانهما الذين نزحوا من بيوتهم الى قراهم في جبلهم القريب. وفي المساء نفسه، وحتى ساعة متقدمة من الليل، دارت اتصالات مكثفة ما بين جهات عليا في الدولة وبعض من كبار ضباط الجيش ومحافظ طرطوس من جهة، ورئيس بلدية بانياس وبعض من رجال الأعمال والتجار فيها على صلات ما بالسلطة وأجهزة الأمن، بينهم تاجر مثَّل الشيخ أنس عيروت الذي رفض المشاركة بنفسه في المفاوضات، من جهة أخرى. لاحقاً قيل إن هؤلاء المفاوضين اعتقلوا جميعاً. أما ما اتفق عليه الطرفان في هذه المفاوضات، فهو انسحاب أجهزة الأمن من بانياس، ودخول الجيش النظامي اليها، وتوقف الأهالي عن التظاهر في المدينة التي جلا عنها فعلاً رجال جهاز أمن الدولة، حاملين أثاثات مقرهم قبل قفله. وفي صبيحة نهار الأحد قدمت الى محلة رأس النبع وحدة عسكرية صغيرة، وأخلت جثث الجنود الثلاثة الذين قتلهم العقيد أمس، بعد رفضهم أوامره مع ثلاثة آخرين أطلق عليهم النار ايضاً، فجرحوا ونقلهم شبان من بانياس الى المستشفى الحكومي، قبل أن يحتله رجال الأمن والشبيحة.


صبيحة نهار الاثنين، 3 نيسان، انتشرت قوة عسكرية كبرى من الجيش، بدباباتها وآلياتها، على أطراف المدينة وتخومها، من دون أن تدخلها. وحين حاولت الدبابات التقدم الى داخل المدينة للتمركز فيها، خرجت جموع من الاهالي الى الشوارع في تظاهرات تصدّت لدخول الدبابات التي عادت أدراجها وتمركزت خارج المدينة. أما قوات الأمن والشبيحة التي خرجت من بانياس، فأقامت حواجز لها على كل الطرق المؤدية اليها، ضاربة حولها حصاراً، ومانعة إدخال المؤن اليها، مع قيامها بحملة خطف واعتقال لكل من يدخلها ويخرج منها. لذا شلت الحياة في المدينة، وأقفلت معظم المتاجر في سوقها، وتوقف العمل في مؤسساتها وإداراتها الحكومية العامة، لأن معظم موظفيها من العلويين الذين لم يبقَ منهم أحد في بانياس. أما المدارس فأقفلت أبوابها ايضاً، فيما دفع الخوف والحصار بعضاً من العائلات السنية الى مغادرة المدينة، رغم الحواجز الأمنية التي اختطفت أو اعتقلت شباناً من هذه العائلات.