التاريخ: آذار ٣, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
 
مخاوف «عدوى الثورة» ومخاطر «عدوى الإخفاق» - عبدالوهاب بدرخان

الدرس الأول لما يسمى ثورات أو انتفاضات أو مجرد احتجاجات ان الأنظمة المتساقطة أو المرشحة للسقوط كانت، أو لا تزال، نمطاً لا ينتمي الى انتظام بمفاهيم علم السياسة. انها حالات من الفوضى المغلفة بقوة القبضة الحديد. متى تنزاح القبضة تنكشف الفوضى، وتحصل التشظيات. هي مسماة جمهوريات، وللجمهورية روح ومبادئ وأعراف وأخلاقيات، لكنها ليست جمهوريات وانما أقرب اليها شكلاً ومظاهر. وهي ليست ملكيات، فللملكية أيضاً مقومات، أبرزها شرعية تاريخية لا لبس فيها، يكرّسها قبول مجتمعي لكونها كشفت للسلطة والنظام تمثل خلاصة الوئام الوطني وضمان الحماية المعنوية من تداعيات الخلافات بين الساسة وأهل الحكم. ومن هذه البديهيات، استطراداً، ان تلك الجمهوريات أو ما يشبهها، لا تستطيع أن تكون ملكيات مهما بلغت سطوة الحاكم. أما نمط «الجملوكيات» الهجين فيفترض أن يكون أصحابه تعلموا أنهم كانوا يعيشون في أوهام قد تنفجر أمام أعينهم أو، إذا غيّبهم الموت، تجعل حياة ورثتهم جحيماً.


الدرس الآخر يتميز بالبساطة الشديدة، وهو ان الشعوب تكاد تكون نسخة واحدة، ذاك ان ما خرج التونسيون ثم المصريون والليبيون يطالبون به هو في النهاية واحد. إذا أمكن اختصاره في عبارة صغيرة مستعارة من مواطن عادي، لا أهمية لجنسيته، هي «ان يتوافر لي عيش كريم، وان لا يكون هناك ظلم». ويُستدل مما نشهده راهناً ان «العيش الكريم» غدت مهمة يصعب على الحكومات إنجازها، لأنها عنوان للائحة طويلة من الشروط والواجبات التي ينبغي تلبيتها. ومثلها المهمة الأخرى المطلوب فيها غياب الظلم أو رفعه. كلاهما مكلف للحصول على علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم، لكن ناتجهما النهائي يحقق المصلحة المتوخاة، فالمواطن الحر المنتج لا يكون عبئاً أو عالة على المجتمع والدولة، بل يصبح قيمة مساهمة ومتفاعلة في تطوير بلده وتعزيز روح المسالمة والتوافق في مجتمعه.


في كل حالات الاضطراب تبيّن وسيتبيّن ان الحشود التي خرجت الى الشارع انما كانت تعبيراً عن فرد ناقم على تهميشه وتجاهله ومعاملته كأنه كمٍ مهمل لم يكن هناك أي لزوم لوجوده. فوراء هذا المشهد الجمعي المؤثر دوافع شخصية وفردية متلاقية. وفي تونس كما في ليبيا خصوصاً قد يكون هؤلاء الأفراد حاذروا، قبل أن يوحد الشارع صرخاتهم، أن يعبروا عن أفكارهم لأن كلاً منهم كان يظن ان الآخر مخبر متنكر أو واشٍ منتفع. أما في مصر، حيث التعبير سلس ومباشر، كان يمكن التقاط شكوى على مستويات متفاوتة من تضخم مستهجن لـ «الأنانية» و «التكالب» على اقتناص الأرزاق، فإذا بالجميع يعيشون في ميدان ما وصفوه بأنه «لحظات تطهّر» أنستهم التغالب الذي مرّوا به في سنوات التوق الى التغيير.


لكن الشعب الذي أراد إسقاط النظام، وسقط فعلاً، نجده لا يريد إخلاء الشارع، على رغم المناشدات والإنذارات وحتى الفتاوى، لماذا؟ لأن الحكم المزمن ربّى في النفوس انعدام ثقة مزمناً. ثمة شكوك قد تكون غريزية، طبيعية ومشروعة، في السياسيين وإقبالهم الفطري على إنجاز الصفقات والتسويات. ثمة خوف، كما يقال، من أن تُسرق الثورات أو تصادر أو تمتطى لتُقاد في الخفاء الى وجهات لم تردها. فالشعوب خبرت مع الحكم المزمن كل أنواع التزييف، والنطق الزور باسمها، والقرارات التي تصدر بتفويض لم تعطه، وحتى الحروب التي خيضت بها رغماً عنها، والاستسلامات التي قدمت بالنيابة عنها. ولذا فهي تريد القطع مع هذا النمط، ويكفي انها تبلغت هنا وهناك أن ما كانت تظنه «دولة» قائمة انما هي كيانات هلامية تحتاج الى إعادة تأسيس، ومن نقطة الصفر، طالما ان أصل العلة في الدساتير التي عُبث بها كثيراً وطويلاً وأعيد عجنها مراراً لتتناسب مع الإقامات المديدة للحكام.


تلك هي المعضلة التي تصدم القيمين على المراحل الانتقالية، التي يراد تقصيرها الى أدنى وتمريرها بأقصى سرعة، لكن هاجس تأمين بدايات قانونية سليمة للعهد المقبل يرتطم بكثير من الصعوبات التي تحول طبعاً دون تحقيق إنجازات سريعة. ثم ان تأخر عودة دورة الحياة الى طبيعتها يشكل تحديات وضغوطاً على خطط العمل وعلى المرجعيات التي يفترض أن تسترشد بها. وأكثر ما يذهل هو اكتشاف ان القوانين الموضوعة افتراضياً لمواجهة مثل هذه الحالات لا تبدو مساعدة، إذ تعرضت على مرّ الأعوام للتشويه والتحريف لأن الحاكم لم يتصور ان حالة كهذه يمكن ان تطرأ، ثم ان أعوانه ربما أرادوا مكافأته بتخليده في حياته فتبرعوا بأحطّ الأفكار والاقتراحات لطمس معالم الطرق من بعده، وقد يكونون أحرقوا الخرائط لئلا يهتدي أحد الى تلك المعالم؟ وعادة ما يكون هؤلاء رجالاً لكل الفصول والعهود، لذا يتقدمون لتأمين استمراريته حتى وهو في منفاه القسري الذي قصده من دون أمل بالعودة. أما هم فيراهنون على «عدوى الإخفاق» كما راهن سواهم على «عدوى الثورة».


الدرس الثالث مفزع ومعقد. فالحاكم الأوحد كان يختصر كل شيء في شخصه، كان مريحاً وعملياً للداخل وللخارج، القوانين هو وهو القوانين. من هنا أن قوننة حياة الشعب بعده سلسلة متشابكة من الصعوبات التي حبكها طوال عقود وتلزم حلحلتها خلال أسابيع أو شهور. وكما ان مصادرة الصلاحيات و «شخصنة الدساتير وإخضاع القوانين لشخص الحاكم تشكل في حد ذاته «ثقافة» يتجند فيها رجال الخبرة والعلم لخدمته، كذلك يمثل تحرير الصلاحيات وإعادة الاعتبار للدساتير والقوانين ثقافة أخرى تطلب وقتاً طبيعياً لبلورتها، أي أنها لا يمكن ان تتوضح في مرحلة انتقالية قصيرة بالضرورة لأن الشعب ينتظر بسقف توقعات عالٍ.


في تونس لم تخب الآمال بعد لكن مشاعر الانتكاسة تتكثف. في مصر هناك انطباع عام بأن انضباطية العسكر تنعكس على المسار الانتقالي، لكن النجاح لا يزال رهاناً غامضاً. في ليبيا لم يبدأ الانتقال بعد وسط مخاوف من أن يظفر النظام بالحرب الأهلية التي يرغب فيها، إذ انه أمضى نيف وأربعين عاماً وهو يخوض ثورات مسلحة هنا وهناك، وها هو أخيراً يخوض ثورته على شعبه نفسه. وفي الدول الأخرى المرشحة أنظمتها للاهتزاز والتغيير يدور سباق محموم بين تنضيج الثورة ومحاولة إجهاضها سواء بالقوة أم بإصلاحات مفتعلة أم بحوارات كان يمكن ان يشرع بها قبل أعوام. واللافت مثلاً أن الأمم المتحدة جرّبت عرض خبراتها للمساعدة، خصوصاً انها واكبت المراحل الانتقالية في بلدان أوروبا الشرقية غداة انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا انها لم تلق الترحيب الذي تمنته. واللافت أيضاً أن الجامعة العربية استطاعت أخيراً ان تلامس موضوع الساعة ولو في شكل غير مباشر، إذ أصدرت بيان مبادئ (الاحتكام الى الحوار، نبذ استخدام العنف، المحافظة على وحدة الأوطان وعلى السلم الأهلي...) لا يتوقع أن يحظى بأي اهتمام. ذاك ان التيار السائد يفيد بضرورة إقصاء أي وجه من العهد السابق حتى لو لم يتلوث بسمعة قمع أو فساد. ورغم سلبيات هذا الإقصاء، وقد جرّب سابقاً، إلا أن هناك ضرورتين يمكن ان تبرراه. الأولى تفرض الانتهاء من كابوس «الحزب الحاكم» الذي شكل أحد أدوات ممارسة الاستبداد. والثانية تقضي بالذهاب الى أقصى في المحاسبة كعبرة لمن يعتبر لكن في الإطار القانوني وليس خارجه.


في كل الأحوال، ستطول المراحل الانتقالية أكثر مما يمكن تصوره. إذ ان السعي الحثيث لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ولو بقوانين غير محبذة لكن معدّلة، يعني ان الحكم الأول المنتخب سيكون بدوره انتقالياً لأن أولوياته ستكون إعداد دستور جديد وقوانين جديدة تحترم الحريات والحقوق الأساسية وتضع قيوداً صارمة للحد من الفساد. وبهذا المعطى يرتسم الدرس الرابع الذي يجب أن تستوعبه الدول التي تريد تجنب التجربة القاسية، فتعمد الى تغيير من داخل النظام إذا استطاعت الى ذلك سبيلاً. فالشعوب متشابهة وطموحاتها كذلك. وقد سمعنا نصائح مكررة من كبار مسؤولي النظام الإيراني تدعو الى «سماع ما تريده الشعوب»، لكن فاتهم ان يستمعوا الى ما يريده الشعب الإيراني...
* كاتب وصحافي لبناني