التاريخ: آذار ٢, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
 
مستقبل مصر... مخاوف مشروعة وضمانات لا بد منها - عصام العريان

الثورات التي تعقبها مراحل انتقالية تتصف بالسيولة الشديدة، حيث تتفاعل عوامل عدة في صنع الأحداث. وبقدر توازن القوى يتم الخروج من المرحلة الانتقالية بخريطة جديدة وسياسات جديدة وتوازن جديد للقوى.
القوى الفاعلة الآن على الساحة المصرية كثيرة، تتشابك مصالحها وتتعارض حيناً أو تتوافق أحياناً. ولا بد أن نتفق على أن المرحلة الانتقالية في مصر قد تمتد لسنوات يمكن أن يتم خلالها، بواسطة السلطة التي ينتخبها الشعب، استكمال بناء نظام ديموقراطي جديد.


هذه القوى الفاعلة الآن بحسب ترتيب قوتها، هي:


أولاً: الشعب الذي خرج بالملايين يطالب بإسقاط النظام القديم الذي استمر منذ 1952 وبناء نظام جديد تماماً، أدرك أن الحرية منبع كل الفضائل، وأن العدل لا يتجزأ، وأن الكرامة الإنسانية لا يعدلها مال ولا تنمية، وأن الاستقلال الذي سعت إليه ثورة 1952 لم يتحقق في الواقع. هذا الشعب يحتاج إلى تنظيم نفسه في أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ومنظمات ومؤسسات للنفع العام.


ثانياً: الجيش الذي قرّر من البداية احترام المطالب الشعبية، وحراسة إرادة الشعب التي ظهرت في أوضح صورها، وقام بدعم ثورة 25 يناير وحمايتها. وعلى رغم الشكوك إلا أن الثقة بين الشعب والجيش تزداد يوماً بعد يوم، وقد تهتز حيناً بسبب غرابة الحدث التي دفعت الجيش إلى قلب الأحداث، وفرضت خروجه إلى العمل السياسي. أعلن الجيش أن تسلمه السلطة ليس بديلاً للإرادة الشعبية، ومع ذلك تزداد المخاوف من احتمال بقائه في الحكم. وقد تتبدد تلك المخاوف إذا تم إعلان جدول زمني لنقل السلطة، خصوصاً بعد الانتهاء من التعديلات الدستورية التي ركّزت على ضمانات الانتخابات الحرّة البرلمانية والرئاسية.


وتبقى المخاوف مع نشاط فلول الحزب الوطني في المحليات وهم بالآلاف، وجهاز أمن الدولة الذي يخشى الحساب، والإعلاميين الذين خانوا أمانة الكلمة وخدعوا الشعب ولا يزالون يروجون الإشاعات ويبذلون المحاولات الدؤوبة لإجهاض الثورة، والتصدي للمعتصمين بقسوة، والمطالبات المستمرة بوقف الاحتجاجات والتظاهرات والمسيرات التي انتزعها الشعب بإرادته الحرة ولن يتخلى عنها بسهولة، لأنها الضمان الأكيد لتحقيق مطالبه وحراستها.


هذه المخاوف من استمرار الجيش في السلطة سببها إدراك المصريين جميعاً أن الجيش المصري – ولو من وراء ستار – هو الذي حكم البلاد منذ شرعية انقلاب 1952 والتي تآكلت بسبب الهزيمة النكراء في 1967 ولم يكن للجيش فيها تقصير، ثم استرد شرعيته في حرب 1973، وها نحن أمام شرعية جديدة تولد من رحم الثورة التي ليست كبقية الثورات التاريخية، فلم تهدم السلطة السابقة تماماً وتستولي على السلطة بنفسها، بل تدخل الجيش لحمايتها فأصبح شريكاً للشعب، فكيف يتم تنظيم هذه الشراكة؟ خصوصاً في زمن لم يعد يقبل وجود العسكريين في سدة الحكم.


ثالثاً: القوى السياسية المصرية: حضر الشعب في الثورة وكان الشباب والنواب السابقون في برلمان 2005 – 2010 الذين تم تزوير الانتخابات ضدهم (القشة التي قصمت ظهر البعير) وشكلوا البرلمان الشعبي في إطار الجمعية الوطنية للتغيير، والإخوان المسلمون تحملوا مع غيرهم عبء الإعداد للثورة والمشاركة فيها ثم حمايتها وحراستها حتى بدأت تؤتي أكلها.


انضم بعض الأحزاب التي عاشت في كنف النظام إلى الثورة مبكراً أو متأخراً وغابت الأحزاب الورقية الكرتونية عن المشهد حتى انتهت الأحداث. وكان الحزب الوطني متآمراً – ولا يزال – على الثورة، وقتل رجاله المئات بالتواطؤ مع «أمن الدولة» الذي كان متواطئاً في سيناريو التوريث، ووظّف الأمن العادي في الجرائم الخطيرة ولا يزال يحاول إجهاض الثورة.
المخلصون من هؤلاء يريدون إطالة المرحلة الانتقالية بذريعة الاستعداد للانتخابات، أو لهدف الإبقاء على الإجماع الوطني الذي انصهر فيه الجميع خلال 18 يوماً ومن أجل تحقيق أهداف الثورة التي لم يتحقق معظمها حتى الآن.


مخاوف هؤلاء تتلخص في أمور ثلاثة:


- بروز ضخم لقوة الإخوان في الانتخابات البرلمانية على حساب توازن القوى المطلوب للمرحلة الانتقالية، ما يهدد الديموقراطية الوليدة ويتسبب في فزع القوى الدولية الغربية.


- عودة فلول الحزب الوطني إلى المشهد من جديد من طريق أموالهم التي ما زالت بحوزتهم وقبل محاكمة المفسدين، ولسيطرتهم على المحليات التي لم يحل الجيش مجالسها المحلية، وتغلغلهم في الجهاز الإداري للدولة، وبقاء جهاز «أمن الدولة» الذي أدمن تزوير الانتخابات.


- إفراز الانتخابات برلماناً منقسماً، فيكون المخرج هو حكومة وحدة وطنية ائتلافية لاستكمال المرحلة الانتقالية، وتاريخ هذه الحكومة مثّل مشكلة لمصر قبل عام 1952، إلا أن المناخ تغيّر ولم يعد هناك احتلال ولا قصر ملكي ولا نفوذ أجنبي.


- الضمانة الحقيقية لتبديد تلك المخاوف أن يدرك الجميع أن المرحلة الانتقالية لن تنتهي بمجرد انتخاب برلمان جديد أو رئيس يمسك بمقاليد السلطة، بل لا بد أن تستمر لسنوات قليلة ويجب أن يبقى التلاحم الوطني الذي تجلّى في الثورة، والتماسك القوي بين تلك القوى أثناء الانتخابات وخلال الفصل التشريعي المقبل لإنجاز مهام الثورة والانتقال السلس إلى نظام ديموقراطي سليم، وقد أعلن «الإخوان» أنهم لن يتقدموا بمرشح للرئاسة ولن يتقدموا بعدد ضخم من المرشحين للبرلمان حتى لا يحصلوا على غالبية، بل يريدون أن يتم تمثيل الجميع.


- ملامح هذا النظام واضحة ومتفق عليها بين الجميع تقريباً، والمطلوب هو إخراجها إلى النور في الواقع، وتتمثل في:


أ - دستور جديد. وقد أوجبت التعديلات الدستورية إنجازه خلال 6 أشهر بواسطة جميعة تأسيسية يختارها البرلمان الجديد يحفظ المقومات الأساسية للمجتمع ويحقق التوازن بين السلطات.
ب - حياة حزبية تنافسية حقيقية بين أحزاب مختلفة في البرامج ومتفقة على الدستور فلا يثار جدال من جديد حول الهوية والمرجعيات.
ج - نظام انتخابي ملائم لمصر يتخلص من العيوب التي شابت الانتخابات المصرية منذ عام 1924 وحتى الآن.
د - مجتمع أهلي يتميز بالحيوية والنشاط في مختلف مجالات الحياة.
هـ - إعلام حر مستقلّ لا يخضع للحكومة ويتيح الفرص المتكافئة لجميع التيارات والأحزاب لمخاطبة المصريين.
يجب أن يتوقف الجدال العقيم حول مدنية الدولة ومدنية الأحزاب، لأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية ولا الحكومة الدينية ولا الأحزاب الدينية، ولأن الإخوة المسيحيين أدركوا خطورة أن تتبنى الكنيسة التعبير السياسي عنهم، وأعتقد أنهم سينخرطون في الحياة الحزبية السياسية مثلما حدث في أعقاب ثورة 1919 وسيشاركون في الأحزاب كافة.


الشريعة الإسلامية في التطبيق المصري المتسامح لن تقلد نماذج سابقة في بلاد عربية أو إسلامية، ولن تكون على حساب قيم المواطنة والمساواة والعدل والعدالة والحرية، بل ستكون تأصيلاً لهذه القيم الأساسية والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، وسيأتي الاجتهاد العظيم من خلال فقهاء عظام ومفكرين من مختلف التيارات وبرلمان حر منتخب متوازن، ليس فيه غالبية مطلقة لتيار، ومن خلال حوار حر من دون ضغط أو إكراه.


التخويف من الإسلام والترهيب من الشريعة والتفزيع من «الإخوان» سياسة قديمة فاشلة يجب ألا يعود البعض إلى استخدامها، فقد أثبت «الإخوان» أنهم على قدر المسؤولية بمشاركتهم في الثورة وحمايتها كمواطنين، ثم بإطلاق حزبهم السياسي المدني المنفصل عن الجماعة الأم، ثم بإعلانهم الواضح عدم ترشحهم للرئاسة أو سعيهم لغالبية برلمانية، واستعدادهم الواضح لتحمل المسؤولية مشاركة مع غيرهم في الحكومة المقبلة بعد الانتخابات، وتأكيدهم المستمر لاحترام إرادة الشعب إذا خالفت اختياراتهم السياسية والفقهية.
رابعاً: القوى الخارجية:


توافدت وفود من أوروبا بالذات على مصر، وكان أبرزها زيارة رئيس الوزراء البريطاني الذي التقى رئيس المجلس العسكري الأعلى المشير حسين طنطاوي ورئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق اللذين ركزا على الشباب، وأعلنا بوضوح رفضهما القاطع لأي تدخل أجنبي أو إقليمي في الشأن المصري، بينما ما زالت بعض القوى السياسية ترحب بتلك الوفود، وقد أسقطت الثورة العظيمة هذا التدخل الفاضح لأنها قامت بأيدٍ مصرية صرفة ومن دون مساعدة أجنبية، ونجحت من دون دعم خارجي وما زالت مستمرة ضد إرادة الدول الكبرى التي فوجئت بالثورة وعزمها وشبابها، وأعتقد أنها اندرجت في القوى المضادة لوصول الثورة إلى غايتها العظمى في بناء نظام ديموقراطى سليم. فالغرب ليس ضد الإسلام أو الإخوان أو الحركات الإسلامية، بل هو في الحقيقة ضد الاستقلال والديموقراطية والمساواة بين الأمم.


والذعر الذي أصاب إسرائيل دفع تيارات يمينية متطرفة في أميركا وأوروبا لمحاولة فرض تصورات وإجراءات على المشهد السياسي المصري، بغية دعم نظام مبارك أو استمرار السياسات نفسها في حماية العدو الصهيوني وإمداده بشريان الحياة من الغاز والمواد الخام وغير ذلك من دعم سياسي ودعم اقتصادي، في مواجهة استحقاقات السلام المفروضة بالمعاهدات التي لم يحترمها أحد من الأطراف الموقعة عليها، لا مصر بتفريطها في تبادل الالتزام ولا إسرائيل التي فرضت هيمنة على المنطقة كلها، ولم يحترمها الراعي الأميركي نفسه، بل فرض أوضاعاً شاذة لا يقبلها عقل ولا منطق ولا خلق قويم.


الضمانة الجادة لقطع الطريق على التدخلات الخارجية تكمن في وحدة الأمة جميعاً: الجيش والشعب، المسلمين والمسيحيين، الأحزاب السياسية والرموز الثقافية والفكرية. انتهى زمن الوصاية الخارجية، وانتهت معه حاجة بعض المصريين للاستقواء بالخارج ضد وطنهم. هذه هي أهم القوى المضادة الآن ومعها الرئيس السابق وبقية أركان نظامه التي ما زالت تحاول إجهاض الحلم الثوري بالانتقال إلى عهد جديد، لذلك كان لا بد من مواجهة هؤلاء جميعاً بوعي تام وحسم مطلوب وسرعة المحاكمات العادلة لكل رموز الفساد والذين لم يقدموا بعد للحساب، وهم معروفون، ولا بد من عزل الحكومة التي عيَّنها مبارك، وإنهاء حالة الطوارئ التي تتيح لأجهزة الأمن، خصوصاً جهاز أمن الدولة، التحرك بعيداً من رقابة الشعب والقانون والقضاء.


هناك خوف يسيطر على البعض من عودة الفرعونية من جديد، وهذا يمكن تبديده بضمانات دستورية، بدأت بتحديد مدة الرئاسة بـ 4 سنوات تجدد لمرة واحدة، وبقي توزيع الصلاحيات بين الرئيس والحكومة والبرلمان بصورة تضمن توازن القوى وكفاءة الأداء، والحسم المطلوب في القضايا الحيوية والحفاظ على وحدة الدولة المصرية من دون المساس بمركزيتها التاريخية بتحقيق الهدف المتفق عليه أن تتحول مصر إلى جمهورية رئاسية وبرلمانية ويكون للجيش فيها دور واضح في حماية الوطن والدفاع عن أراضيه بجانب حماية الدستور وعدم الانقلاب عليه وضمان حرية وطلاقة الإرادة الشعبية حتى لا يحاول فرعون جديد أو حزب مهيمن إلغاءها أو تحجيمها.

* قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» - مصر