بعد ثورتي مصر وتونس، تغيّر معنى التنظيم الحزبيّ والتعبئة النضاليّة وأدواتهما. أليس بعيد الدلالة، على ما تساءل غير مراقب، أنّ أحد أبرز شبّان التحوّل الثوريّ، الشابّ وائل غنيم، مدير مبيعات في غوغل، وأنّه غير مسيّس، يستحي ويبكي ويتواضع تواضعاً غير مفتعل أو زائف.
في سياق هذه التحوّلات العظمى، وصف بعض من كتبوا عن الثورة المصريّة ما حصل بـ"التطهّر"، أي محاولة التخلّص من كلّ ما ارتبط بالمصريّين، أو ما وُصف به المصريّون، في سنواتهم الأخيرة: في هذا الجانب يندرج تأسيسهم اللجان الشعبيّة، وإقبالهم على الأعمال والأنشطة التطوّعيّة، والحرص البالغ الذي أبدوه على سلامة المنشآت العامّة، وتنظيفهم ميدان التحرير، وغير ذلك من ظاهرات مشابهة في معناها ودلالتها. وفي هذا الإطار أيضاً اندرجت الأغاني والهتافات والأزياء الوطنيّة وذات الدلالة، من "اصحي يا مصر"، إلى الهلال والصليب، وغير ذلك. بل ذكر صحافيّ أجنبيّ أنّه رأى شابّين في "ميدان التحرير" يلبسان قميصاً عليه العلم الجزائريّ، كما لو أنّهما يعلنان سخافة "الحرب الكرويّة" التي سبق أن خيضت بين مصر والجزائر، واستنطقت الغرائز الشوفينيّة في البلدين، هي التي عزّزها ونفخ فيها نظاما مبارك وبوتفليقة.
وهذا التطهّر لا يشي، في واقع الحال، برفض شرعيّة زين العابدين ومبارك وحدهما، بل برفض شرعيّة يوليو 1952 في مصر وشرعيّة الحقبة الاستقلاليّة البادئة في 1956 في تونس.
فنظاما بن علي ومبارك، وعلى رغم التقلّبات والتغيّرات، وهي غير قليلة، هما امتداد للنظامين اللذين أسّسهما جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة: الأوّل على رأس "هيئة التحرير" فـ"الاتّحاد القوميّ" ثمّ "الاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ"، والثاني على رأس "الحزب الدستوريّ".
لكنْ ماذا لو افترضنا أن اللبنانيّين تسنّى لهم ممارسة هذه التطهّريّة والتخلّص ممّا هم فيه أو ممّا يوصفون عليه؟ هذا لا يزال، وللأسف سيبقى طويلاً، مجرّد افتراض نظريّ بسبب الواقع الطائفيّ المعروف. غير أنّ هذا الواقع إيّاه هو ما ينبغي التطهّر منه حين يلوح احتمال كهذا. فمصدر السيّئات جميعها هو، عندنا، هذه الولاءات التي تتقدّم على الولاء الوطنيّ، والتي يتساوى الجميع فيها، وإن لم تتساو الطائفيّات في مدى إضرارها بشروط التشكّل الوطنيّ.
ولا نبالغ إذا قلنا إنّ العالم الطائفيّ في لبنان لا يزال أكثر عوالمه حقيقيّة، فيما العالم الوطنيّ معلّق بين الحقيقة والافتراض.
إنّ هذا هو ما ينبغي أن يُعكس، وعندها فقط نستحقّ ما ننسبه اليوم إلى أنفسنا وإلى لبنانيّتنا.
|