حسناً فعلَتْ جماعة «الإخوان المسلمين» عندما أكدت خلال أحداث الثورة المصرية، على لسان العديد من قادتها ورموزها، أنها لا تسعى إلى منصب رئاسة الدولة، وعندما حرصت على عدم رفع أي شعارات دينية خلال التظاهرات التي سبقت تنحي الرئيس حسني مبارك، على رغم مشاركة عناصرها وكوادرها في هذه التظاهرات، ثم إصدارها بياناً واضحاً وصريحاً في هذا الشأن يوم السبت 12 شباط (فبراير) أعلنت فيه أنها لن ترشح أحداً منها لمنصب الرئاسة، ولن تسعى إلى الحصول على الغالبية داخل مجلس الشعب. ومن ثم، حصرت أهدافها بين الاعتراف بها كجماعة قانونية رسمية، وكحزب سياسي، وانتهاء بإفساح المجال لها كشريك طبيعي داخل المؤسسة التشريعية.
هذه الأجندة لا يمكن لأحد إنكارها لجماعة «الإخوان المسلمين»، وبات واضحاً خلال فترة إدارة الثورة، وجود توافق عام بين القوى السياسية على الاعتراف بهذه الحقوق، وهو ما سيجعل من الصعب على أي نظام سياسي جديد تجاهلها، ليس فقط لأن الجماعة قوة سياسية لها وزنها، ولكن أيضاً لأن هذه هي طبيعة المرحلة الجديدة.
وعلى رغم أهمية تصريحات الجماعة وبيانها، إلا أن ذلك لا يكفي لبناء الثقة التي تطمح إليها الجماعة في هذه المرحلة الدقيقة مع الدولة والمجتمع، فإذا كان بناء نظام سياسي مدني ديموقراطي هو القاسم المشترك بين القوى السياسية، فإن جماعة الإخوان مازال ينقصها الكثير من الاستحقاقات للتأهل لشراكة مع المجتمع والقوى السياسية على هذا الأساس. لا ندعو الى استبعاد الجماعة من المشاركة في عملية بناء هذا النظام لحين استيفائها لهذه الاستحقاقات، فحال الجماعة لا يختلف كثيراً عن باقي القوى السياسية والتيارات الفكرية، من حيث درجة جاهزيتها للمرحلة القادمة - سواء على صعيد الهياكل التنظيمية أو الخطاب أو الكوادر السياسية -، وإلا أصبحنا نعيد الخطاب الإقصائي التقليدي الذي تمسَّكَ به النظام السابق في مواجهة المعارضة. الغاية أن على الجماعة البدء من الآن في إعادة النظر في سلوكياتها وفي خطابها – المكتوب والشفهي- لتصبح في مستوى المرحلة القادمة.
ربما تكون الخطوة الأولى إعادة قراءة الجماعة لمجموعة الوثائق الأساسية التي صدرت عنها خلال السنوات الأخيرة، بدءاً من مبادرتها حول الإصلاح الداخلي في مصر (آذار/ مارس 2004)، وانتهاء بوثيقة «برنامج حزب الإخوان المسلمين» (آب/ أغسطس 2007)، ومروراً ببرامجها التي طرحتها في مختلف الانتخابات، فعلى رغم أن هذه الوثائق طُرحت للتعامل مع واقع سياسي محدد، ورغم عدم إغفال الجوانب الإيجابية المهمة فيها، مثل تأكيد الجماعة التزامها النظام الجمهوري، والنظام السياسي البرلماني الدستوري الديموقراطي، والتزام العمل من خلال القنوات الدستورية والقانونية، والإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطات، ورفض فكرة الحق المطلق لأي جماعة أو حزب في تولّي السلطة أو الاستمرار في السلطة من دون الاستناد إلى إرادة شعبية صحيحة، والتزام مبدأ تداول السلطة عبر الاقتراع الحر المباشر، بالإضافة إلى بعض المسائل المهمة ذات الصلة، مثل التأكيد على حريات الاعتقاد والرأي وعقد الاجتماعات الجماهيرية، وتشكيل الأحزاب السياسية، وحرية تملك وسائل الإعلام، بالإضافة إلى ما عكست هذه الوثائق من تحول مهم في نمط تفكير الجماعة، من التركيز على المدخل الديني التربوي في الإصلاح، إلى تبنّي منهج أكثر شمولاً يحاول طرح تصورات حول السياسة والاقتصاد والصحة والتعليم والبحث العلمي، والشباب والمرأة والطفل والأقباط والثقافة والإعلام والسياسة الخارجية... إلخ - بصرف النظر عن مضمونها -، إلا أن كل ذلك لم ينجح في القضاء على الإدراك السلبي للجماعة أو الشكوك في موقفها الحقيقي من عدد من القضايا المهمة، في ظل وجود تناقض نسبي بين خطابيها المكتوب والشفهي، وفي ظل خلافات مهمة داخل الجماعة بشأن الكثير من القضايا، ما أثَّر في التحليل الأخير سلباً في صدقية هذا الخطاب وتماسكه. نطرح في هذا الإطار عدداً من الإشكاليات مازالت قائمة في خطاب الجماعة.
أولاً الخلط بين الدَّعَوِي والسياسي، وكان هذا الخلط أكثر وضوحاً في طريقة تعاملها مع مفهوم «الإصلاح السياسي»، الذي مثَّل مفهوماً مركزياً في معظم وثائقها السابقة، والذي سيظل حاضراً معها أيضاً لفترة قادمة، فقد تعاملت الجماعة مع الإصلاح السياسي باعتباره جزءاً من الإصلاح الديني، فانطلقت مبادرتها حول الإصلاح من أساس شرعي (ديني)، حيث طُرحت المبادرة كجزء من «المسؤولية الشرعية للجماعة»، وجزء من دورها في «إسداء النصيحة للمجتمع» [لاحظ هنا الوصاية على المجتمع]. وعلى رغم أن الجماعة لم تنف المسؤولية الوطنية والقومية كباعث مهم لطرح المبادرة، إلا أن هذه المسؤولية جاءت في ترتيب تال للمسؤولية الشرعية والدينية. وأدى هذا التأسيس للمبادرة إلى وقوعها في خطأ أكثر خطورة، وهو انطلاقها من افتراض – صريح أو ضمني- يقوم على امتلاكها الحقيقة دون غيرها. ولم يقتصر الخلط على التأسيس الديني لمفهوم الإصلاح، لكنه امتد ليشمل الغاية النهائية للإصلاح والتي حددتها في إقامة شرع الله من خلال تكوين الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وهي مسائل يمكن قبولها في إطار الوظيفة الدعوية وليس السياسية. وستصبح هذه المشكلة أكثر إلحاحاً إذا حصلت الجماعة على حق إنشاء حزب سياسي.
ثانياً، ارتباك مفهوم الدولة المدنية، فقد حرصت وثائق الجماعة على تأكيد الطابع المدني لتلك الدولة، والتي وصفتها الجماعة في مقدم برنامجها لانتخابات مجلس الشورى (2007) بأن «الدين الرسمي لها هو الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للقوانين والأحكام... دولة يتكامل فيها الحكام والأمة، فالأمة هي التي تُوَلِّي الحاكم، وهي صاحبة الحق في محاسبته، ولها أن تخلعه متى ارتأت ذلك في مصلحتها، فهو حاكم مدني من الوجوه كافة، وحكومتها مدنية ولا صلة لها بالدولة الثيوقراطية». كما اجتهدت الوثيقة نفسها في تأكيد الطابع المدني للدولة من خلال تأكيد ثلاث ضمانات أخرى مهمة: الأولى أن الإسلام يرفض بطبيعته السلطة الدينية، «فالدولة في الإسلام هي دولة مدنية تضع الأمة نظمها ومؤسساتها وتمثل الأمة فيها مصدر السلطات»، ولا يُحظر فيها الاجتهاد البشري في إطار ثوابت الشريعة. الضمانة الثانية أن «ليس في الإسلام سلطة دينية لأحد». والضمانة الثالثة هي كون «سلطة الحاكم هي سلطة بموجب عَقْد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم تقيمها الأمة». وبالإضافة إلى إعادة تأكيد مُسَوَّدَة البرنامج الحزبي مضمونَ هذه الضمانات، فقد أكدت المسوّدة أن تطبيق الشريعة الإسلامية ذاتها يتم من خلال «الرؤية التي تتوافق عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخاباً حراً».
وعلى رغم كل هذه الضمانات المهمة، إلا أن مسوّدة البرنامج الحزبي عمَّقت غموض مفهوم «الدولة المدنية» لدى «الإخوان المسلمين» من خلال ما تضمنته هذه المسودة من تأسيس «هيئة كبار علماء الدين» باعتبارها جماعة مرجعية عليا مستقلة، يجب أن تعود إليها السلطة التشريعية ورئيس الجمهورية قبل إصدار أي قوانين أو تشريعات أو قرارات للتأكد من تطابقها مع الشريعة الإسلامية. وأثار اقتراح هذه الهيئة جدلاً شديداً وشكوكاً حول مفهوم الدولة المدنية لدى «الإخوان»، وبدا النظام السياسي الذي تسعى إليه الجماعة أقرب إلى نظام ولاية الفقيه في إيران، في ضوء استقلال هذه الهيئة في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفي ضوء الطابع الإلزامي لرأي الهيئة، حيث لا يجوز للسلطة التشريعية إعادة التصويت على رأي الهيئة إلا في الحالات التي لا يتوافر فيها أحكام شرعية ثابتة ونهائية وواضحة. وبالطبع، فإن الحكم بأن قضية ما لا يتوفر فيها حكم شرعي ثابت ونهائي هي مسألة تدخل في وظيفة واختصاص هذه الهيئة وليس السلطة التشريعية أو التنفيذية.
من ناحية أخرى، على رغم إعادة تأكيد مسوّدة البرنامج الحزبي بأن رئيسي الدولة والسلطة التشريعية هما المعنيان بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل ما يصدر عنهما من قوانين أو قرارات أو سياسات داخلية وخارجية، إلا أن المسوّدة أعطت لكل صاحب مصلحة – أياً كانت هذه المصلحة – الحق في الطعن أمام المحكمة الدستورية بأن «أيّاً من هذه القوانين والقرارات والسياسات تخالف أحكام الشريعة الإسلامية المتفق عليها من جمهور الفقهاء المعاصرين المعتدّ بآرائهم». ولا شك في أن التوسع الشديد في حق الطعن هذا سيخلق حالاً من الفوضى ليس فقط على مستوى القرارات والقوانين ولكن على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، وتزداد احتمالات الفوضى في ضوء تضارب مصالح الأفراد من ناحية، وتعدد تفسيرات النصوص القرآنية من ناحية ثانية، ووجود أكثر من رأي فقهي في المسألة الواحدة، من ناحية ثالثة.
ثالثاً، اختزال الرؤية السياسية في شعار «الإسلام هو الحل». وبعيداً من مدى دستورية استخدام هذا الشعار، خصوصاً أننا أمام مرحلة مراجعة دستورية، إلا أن هناك مشكلتين أساسيتين يثيرهما إصرار الجماعة على التمسك بهذا الشعار: الأولى أنه يعمق الشكوك حول مدى إيمان الجماعة بقاعدة التعددية السياسية والليبرالية، فقد لا تكون هناك مشكلة مع «الإسلام» كمصدر لاستيحاء الكثير من الأفكار للتعامل مع مشكلاتنا القائمة، أو كمصدر للقوانين والتشريعات، إلا أن المشكلة تأتي من الطريقة التي تطرحه بها الجماعة حتى الآن، والتي تنطوي على رفض ضمني للمناهج السياسية والفكرية الأخرى، التي لا تنطلق من كون «الإسلام هو الحل». وربما كانت ستختلف الأمور كثيراً لو أن الجماعة رفعت شعارها هذا بمنطق «الإسلام هو حل»، وليس «الإسلام هو الحل»، أو ميَّزَتْ بين «الإسلام هو الحل» و»الإسلام هو المصدر للتشريع»، فهناك فرق كبير بين الحالتين. المشكلة الثانية هي في ما ينطوي عليه هذا الشعار من اختزالية ورمزية عالية، تضع المخاطَبَ في وضع الاختيار إما بين الإسلام (كعقيدة) أو غيره من مناهج (الكفر والضلال أو العصيان). ربما تكون الشرائح المثقفة على وعي بعدم صحة هذه المقابلة، ولكن هذا الوعي لا يتوفر بالتأكيد لدى القطاعات العظمى من المصريين، الأمر الذي لا يعني في التحليل الأخير إلا سعي الجماعة للتجريف السياسي لهذه الأغلبية وأخذها بإسلامها. ومن ثم، يصبح على الجماعة إعادة النظر في هذا الشعار، ليس استناداً إلى دستوريته من عدمه، ولكن من زاوية مدى دقته وسلامته كأساس لعلاقة سياسية حقيقية وصحية مع الدولة والمجتمع.
* كاتب مصري
|