ظَهَر أنّ الإستفتاءَ على إستقلال جنوب السودان الذي نُظّم مطلع هذه السنة كان حدثاً تأسيسياً لعام التحوّل الكبير هذا، به تؤرّخ مرحلة المخاض الديموقراطيّ والكيانيّ التي تعيشها المنطقة العربية. قد يُستهجَن هذا الحكم ما دام الإنفصال متعلّقاً بجزء جنوبيّ من بلد له خصوصيّته الأفريقية أيضاً، كما أنّ هذا الجزء يغادر العروبة ككل وليس فقط الوحدة السودانية، ثم أنّ الأنظمة سقطت في تونس والقاهرة، وطرابلس الغرب تنتظر، وليس في الخرطوم. في أقصى الحالات هناك من يدرج استفتاء "الإنفصال" في باب الإعتبارات المعنوية التي عزّزت القناعة حول تراجع دور مصر في الإقليم.. لا أكثر.
لكن الإشكالية أبعد مدى، أو هكذا نزعم. الإنفصال الجنوبيّ أذنَ بإنتقال النظام الإقليميّ ككل إلى مرحلة جديدة. راح يسحب الغطاء عن الشرعيات المزيّفة المحاكية للحظة الإستقلال الوطنيّ عن القوى الإستعماريّة المُهندِسة لخارطة بلدان المنطقة، والمُقرّرة لنوعية الأنظمة السياسية في مرحلة النشأة. من هنا، كانت علاقة بنيوية بين المخاض الكيانيّ، إبتداء من جنوب السودان، وبين المخاض الديموقراطيّ، إبتداء من الشمال الأفريقيّ.
فما حدث أنّ المخاض الكيانيّ الجنوبيّ هو الذي أتاح المخاض الديموقراطيّ الشماليّ. السودان هو الكيان الأكثر تصدّعاً والذي تعثّر التحوّل الفدراليّ فيه، ولا عجب أن ينطلق منه المخاض الكيانيّ. وتونس هي الكيان الاكثر تماسكاً والأقرب لتجسيد نموذج الدولة الأمّة وفيه نواة موضوعية للمجتمع المدنيّ، ولا عجب أن ينطلق منه المخاض الديموقراطيّ. وهو ما كانَ لينطلق من تونس لولا أنّ النظام الإقليميّ قد تزعزع في حلقته الأضعف، أي في جنوب السودان.
المخاض الكيانيّ يعيد تصحيح الحدود الكولونيالية. المخاض الديموقراطيّ يعيد شحن الأنظمة السياسية بأسباب الشرعية. وإذا كانت تونس هي النموذج الأكثر تجانساً للدولة الأمّة في العالم العربيّ، فإنّ مصر هي النموذج الأكثر محورية، والمعزّز بهالة فرعونية. لكن يبقى أنّ التجانس الثقافيّ والدينيّ مؤمّن في تونس في مقابل وجود المسألة القبطية في مصر. ثم أنّ مصر ظلّت تمانع أمام حصرية نموذج الدولة الأمّة (محمّد عليّ وحلم السلطنة، الملك فؤاد وحلم الخلافة، الحركة الوطنية المصرية ووحدة وادي النيل، جمال عبد الناصر وتجربة الوحدة الإندماجية مع سوريا) ولم ترض بهذا النموذج إلا إضطراراً، بعد النكسة والمعاهدة، وليس بعد الجلاء أو تأميم القناة.. التحدّي الآن هو إعادة تعرّف الشعب المصريّ على نفسه في نموذج الدولة الأمّة، ولنا أن نراقب هذا المنحى يوماً بيوم، بعين نقدية حميمة.
وإذا كان المخاض الديموقراطيّ لا يطرح إشكالية كيانية متوتّرة في تونس ومصر نظراً لرسوخ نموذج الدولة الأمّة في الأولى، ومحوريّته في الثانية، فإنّ التداخل بين ما هو كيانيّ وما هو ديموقراطيّ سيطرح نفسه في البلدان الأخرى. وتأتي الحالة الليبية لتطرح إشكالية التغيير في بلد مترامي الأطراف وذي بنية قبلية عملت فيه الطغمة الحاكمة على إضمحلال مظاهر الدولة من جهة، وإحلال مظاهر إمبراطورية فضفاضة ومجنونة من جهة أخرى. أما الحالة اليمنية فإنّها المخاض الديموقراطيّ فيها متداخل مع المخاض الكيانيّ إلى أبعد مدى.
وفي الوضع اللبنانيّ تحديداً، فإنّ شرط الخروج من حالة الإنكماش إلى حالة المشاركة في الربيع الديموقراطيّ هي وعي هذه المسألة الكيانية. وفي هذا السياق، فإن من يدعو لـ"إسقاط النظام الطائفيّ" وإبداله بآخر علمانيّ اليوم، هو كمثل من يدعو لسقوط النظام القبليّ في ليبيا بدل سقوط نظام العقيد معمّر القذافي وميليشياته. والمفارقة أنّ من يقترح هذا الحلّ المركزيّ الدمجيّ اليعقوبيّ للبنانيين في بوتقة واحدة (نسبة إلى جناح اليعاقبة في الثورة الفرنسية الداعي إلى دمج الفرنسيين في بوتقة جمهورية متجانسة ضميراً وولاء ولساناًَ) لا يؤمن في الوقت نفسه بالشرط الأوّل اللازم لذلك، وهو تحقيق لبنان لنموذج الدولة الأمّة.. وهذه المفارقة كثيراً ما تكرّرت في التاريخ اللبنانيّ المعاصر: استنزاف الكيان بحجّة تغيير النظام.
الوجه الثاني لهذه المفارقة أنّ من يتحامل على "عاميات 14 آذار" بدءاً من العام 2005 وإلى اليوم، بحجّة أنها "تحالف طوائفيّ"، ينسى أنّ الحشد المليونيّ في 14 آذار 2005 كان أوّل حشد مليونيّ إسلاميّ مسيحيّ مختلط دينياً في التاريخ. وفي المقابل، فإنّ الدعوات إلى "إلغاء الطائفية" غالباً ما تجيء أحادية مذهبياً، أو مكرّرة من زمن أيديولوجيّ منقرض. في المقابل، ما عاد بالإمكان تفادي التفكير الجذري في الإلتباس المحبط لكل تغيير لبنانيّ في إتجاه يطمح إلى تكريس التعدّد وتأمين المواطنة وتوسيع هامش الحريّات والإطاحة بمركزية العنف في الحياة السياسية اللبنانية وتحديث مختلف أوجه هذه الحياة. إنّه الإلتباس بين ما هو ديموقراطيّ وبين ما هو أوليغارشيّ في لبنان، وعمره من عمر نشأة لبنان الكبير، وأعيد إنتاجه على محك تداول النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية بين طوائف هذا البلد.
لكنه لا يمكن إيجاد حلول عملية تخرجنا من هذا الإلتباس إلا في معمعان النضال من أجل إحباط نظام الهيمنة الفئوية المسلّحة القائم حالياً. فالنظام الطائفيّ ليس نظاماً سكونياً: فيه نزعات هيمنية ونزعات توازنية، وهو الآن غير متزن ويعاني من إتجاه هيمنيّ حاد وبقوّة السلاح. في الوقت نفسه فإنّ المدخل لأي إصلاح لهذا النظام، أو حتى لتجاوزه في إتجاه ديموقراطيّ وليبراليّ، لا يكون إلا بتنحية هذا الإتجاه الهيمنيّ الحاد والخطير، خصوصاً وأنّه يتعارض ليس فقط مع الإمكان الديموقراطيّ، إنّما وقبل كل شيء، مع الوحدة الميثاقية والكيانية للبنانيين.
|