التاريخ: آب ٦, ٢٠١٣
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
قراءة في سمات السلفية المصرية - حسن فتحي القشاوي

طلبت "قضايا النهار" من مدير مكتب "وكالة انباء الشرق الاوسط" في بيروت حسن فتحي القشاوي، الذي يعدّ اطروحة دكتوراه حول الخطاب السلفي، تقديم قراءة لتمايزات الحركة السلفية المصرية.

اكتشف المصريون فجأة بعد ثورة 25 يناير أن هناك عملاقا يسكن بلادهم اسمه السلفيون، و بدأ المثقفون المصريون القابعون بمقاهي وسط القاهرة يلحظون أن هناك فوارق جمة بين السلفيين والإخوان، وأن السلفيين في مصر أكثر عددا وإن لم يكن همة وعدة من الإخوان، بل أنهم أكثر توغلا في الريف المصري والمناطق العشوائية من الإخوان، فضلا عن نجاحهم في اختراق الطبقة الوسطى بل الطبقات العليا أحيانا حتى ولو على استحياء.


والأهم أن لديهم عددا من الدعاة والخطباء الذين يتمتعون بشعبية هائلة تفوق علماء الأزهر أو دعاة جماعة الإخوان المسلمين، وأبرزهم الشيخ محمد حسان والشيخ أبو إسحاق الحويني الذي يصفه السلفيون بأنه أعلم أهل الأرض بالحديث.


خرجت السلفية المصرية من العمل تحت الأرض وفي أروقة المساجد والزوايا الصغيرة إلى أضواء الإعلام وإبهار السياسة، فبدت تارة متطرفة ساذجة كأنها قادمة من متاحف التاريخ الإسلامي حينما تحدث أقطابها عن ضرورة تغطية وجوه الأصنام، و ظهرت أحيانا أخرى أكثر ذكاء وحكمة من الجماعة الأعرق في الإسلام السياسي "الإخوان المسلمين"، حينما تحفظت أكبر فصائلها "الدعوة السلفية" عن الإعلان الدستوري المثير للجدل الذي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي أو حينما رفضت الدفاع عن شرعيته في مواجهة تظاهرات 30 يونيو الضخمة، ثم أخيرا مشاركتها في وضع خريطة الطريق بعد عزل مرسي.


بين الحالة المتحفية والحالة الواقعية وبينهما الآفة الجهادية، تبدو السلفية المصرية ظاهرة مركبة بتنوع تنظيماتها ومستوياتها الاجتماعية والأهم انتشارها الجغرافي.


ولكن يمكن القول بتعميم غير مخلٍ إن الظاهرة السلفية المصرية الحديثة يغلب عليها الضعف التنظيمي والتأثير الكبير للدعاة المستقلين والسلمية والميل إلى طاعة ولي الأمر والواقعية التي تصل أحيانا إلى نوع من الخنوع، والبعد عن المواجهة رغبةً في حماية الدعوة ورجالها، فهي سلفية بروح صوفية إن صح التعبير.


فعكس الصورة التقليدية في وسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات،لم يسارع السلفيون إلى استغلال فراغ الدولة بعد ثورة 25 يناير، بإنشاء جماعات الأمر بالمعروف للتحكم في حياة الناس الشخصية وفرض أحكام الشريعة خاصة أن الوسط الاجتماعي المحافظ في الريف المصري كان يمكن أن يتقبل مثل هذه الجماعات التي سبق أن قامت الجماعات الإسلامية الجهادية المصرية في الثمانينات والتسعينات بإنشائها في الصعيد وبعض مناطق القاهرة في ظل دولة مبارك القوية.


واللافت أن جماعة الدعوة السلفية (التي أنشأت حزب النور) وتعد أكبر الجماعات السلفية في مصر ومعقلها الاسكندرية، بدت أحيانا أكثر الجماعات المصرية حرصا على فكرة الدولة وخوفا من إنهيارها جراء الأزمات السياسية المتلاحقة .


ورغم أن الدعوة السلفية تشكل نموذجا للجماعة السلفية المحافظة، إن لم تكن متشددة، على المستوى الفقهي، حتى أن كثيرا من الباحثين يعتبر انها على المستوى الفقهي والعقائدي لا تختلف كثيرا عن "القاعدة"، فإنها على المستوى السياسي قد شهدت تطورا ملحوظا بعد الثورة، بدءا من قبولها فكرة الديموقراطية بشروط بعد أن كانت تكفّرها، ثم الدخول في حوار مع القوى السياسية المدنية والأقباط في الجمعية التأسيسية للدستور، بل شارك كوادرها في حماية كنائسهم في عدد من الأزمات الطائفية، ولو أصر رموز الجماعة على رفض تهنئتهم بأعيادهم ولكنهم أكدوا أن العدل هو ميزان العلاقة مع شركاء الوطن مع محاولة عدم إثارة موضوع الجزية، في افتراق واضح عن كثير من الجماعات السلفية في العالم الإسلامي التي تتعامل مع أي مخالف في العقيدة باعتباره عدوا.
واقعية الدعوة السلفية وضعفها التنظيمي،وعدم ميلها للمواجهة، طبع السلوك العام للسلفيين في مصر، وظهر هذا واضحا في الاشتباكات الميدانية التي شهدتها البلاد بعد الإعلان الدستوري المثير للجدل بين الإخوان والشباب الثوري والليبرالي، إذ ترك السلفيون (رغم إعدادهم الضخمة) الإخوان في الغالب في مواجهة غضبة الشارع الثوري، وكانت مشاركتهم ضعيفة، بل إنه عندما تعرض الشيخ محمد المحلاوي أحد الرموز التاريخية للحركة الأصولية المصرية للحصار في مسجد القائد إبرهيم بالاسكندرية من قبل شباب ثوري، لم يحدث أي رد فعل حتى لو عفوي من سلفيي الاسكندرية.


وقبل هذه المواجهات، ظهر الطابع الخامل للحركة السلفية المصرية في الانتخابات الرئاسية، فإذا كان تأييد أبو الفتوح يعد قرارا سياسيا ذكيا لأنه كان المرشح الإسلامي الأكثر قبولا من الآخر، فعلى أرض الواقع فإن الجهد السلفي لتأييد أبو الفتوح كان فاترا، وبدا السلفيون في الانتخابات دراويش زاهدين وليسوا مجاهدين مرابطين كأعضاء جماعة الإخوان الذين حملوا مرشحهم الاحتياطي محمد مرسي إلى رئاسة أكبر دولة عربية.


سلوك الدعوة السلفية يمكن إرجاعه الى عوامل عدة، ولكن أهمها البيئة المحلية في الأسكندرية ومناطق وجه بحري التي "مصّرت" الحركة السلفية، خاصة أن معقل الدعوة يوجد في الاسكندرية المدينة الأكثر تحضرا وانفتاحا في مصر، الأمر الذي انعكس على سمات زعماء الدعوة السكندريين مقارنة بالقيادات المنتمية إلى مناطق أخرى أقل تحضرا. العامل الثاني، تركيز الجماعة بالأساس على الناحية العلمية والدعوية، وتبحرهم فيها، حتى أنها سميت أحيانا بالسلفية العلمية.


أما العامل الثالث والأكثر أهمية، فهو أن حرص قيادات الجماعة وكوادرها على تجنب الملاحقة الأمنية أثناء حكم مبارك أكسبهم نوعا من البراغماتية وصلت أحيانا إلى درجة من الخنوع الشخصي والخوف من السلطة الذي يمكن إيجاد تبريرات له في التراث الفقهي السلفي الخاص بعدم الخروج على الحاكم. تداخل هذا مع تخوف واضح لدى هذه الجماعة وقياداتها من فكرة الفوضى وإراقة الدماء والحرص على الدولة، والالتزام بالقانون.


واللافت أن الدعوة السلفية رغم أنها ورطت في البداية الإخوان في العديد من المواقف المتطرفة خاصة في الدستور، إلا أنها استيقظت مبكرا من نشوة الانتصار الإسلامي، وانتبهت إلى أن الحاكم الفعلي لمصر هو المؤسسة العسكرية وليس مرسي وأن هذه المؤسسة لن تسمح بأخونة الدولة المصرية، لذا لم يكن غريبا أن توجه الدعوة السلفية تحذيرا مبكرا للإخوان من مصير الجزائر.


وبالطبع فإن جزءا من مواقف الدعوة السلفية تجاه الإخوان نابع من استياء من محاولات أخوانية متكررة لشق الجماعة وذراعها السياسي حزب النور.


الواقعية السياسية للدعوة السلفية وإن حمت السلفيين من غضبة الشارع ولو قليلا بعد 30 يونيو، وإن وَقَتْ مصر من عنف محتمل من تيار قد يكون الأكبر حجما، ولكنها أيضا افتقدت النموذج الحماسي القادر على استيعاب الطاقة السلبية لكثير من السلفيين المصريين الذين سار كثير منهم وراء الإخواني المتسلف الشعبوي حازم صلاح أبو إسماعيل الذي تمتع لفترة بشعبية طاغية، كما انضم كثير منهم وعلى رأسهم مايعرف بالسلفية الحركية أو سلفية القاهرة الأكثر تطرفا الى قافلة التأييد الأعمى للإخوان منذ انتخابات الرئاسة.


الأخطر أن أفول نجم الدعوة السلفية جراء واقعيتها، يحرر المجموعات المتطرفة الميالة للعنف داخل الحركة السلفية المصرية - على قلتها- من أي مرجعية، وتبدو هذه المجموعات مركزة في الأطراف المصرية خاصة سيناء، حيث يوجد حالة معاكسة تماما للحالة السكندرية، جماعات سلفية قليلة البضاعة من العلم، كثيرة السلاح، لديها شعور بغبن إقليمي جراء مشكلات البدو، يؤججه عقدة تاريخية بمظلومية الحركة الإسلامية تجددت بعد اطاحة مرسي في ظل بيئة جغرافية وأمنية مواتية تماما للعمل المسلح، وتنظيم "قاعدة" يطوف بالمنطقة بحثا عن قاعدة جديدة... لن تكون أفضل له سيناء.