التاريخ: شباط ٢٧, ٢٠١١
المصدر: ملحق النهار الثقافي
 
الجريمة والعقاب - عقل العويط
الحرية للعالم العربي

نقولها بكل واقعية وبساطة وفجاجة: ما يجري من وقائع في هذا الزمن العربي الراهن، لا شيء يستطيع أن يماثله تجسيداً وتشبيهاً، أو أن يرسم له صورة أمينة ومنجزة وثابتة: لا إذا وُصِف من طريق الأدب والسينما، ولا إذا وُصِف من طريق الثقافة النقدية، ولا حتى إذا وُصِف من طريق التحليل السياسي المباشر.
هذا إذا كان ممكناً وصف اللامعقول الواقعي جداً، بالأدب والسينما أو بالثقافة أو بالتحليل السياسي المباشر.


زمنٌ يشبه في واقعيته المفرطة والمتوحشة، زمنَ اللامعقول. بل هو اللامعقول متخذاً من جهة، شكل السقوط الكابوسيّ العميم، ومن جهة أخرى شكل المجزرة الدموية الكارثية.
فهل نرى حقاً ما نرى؟ هل نسمع حقاً ما نسمع؟ وهل ما نراه ونسمعه هو حقاً ما نراه ونسمعه، أم ترددات صوره وأصدائه التخييلية فينا؟
فلنصدِّق ما لا يُصدَّق. ولنعقل ما لا يُعقَل.


الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض.
هذه كله يجري ها هنا، والآن، في ممالك اللامعقول العربية هذه، جمالك وممالك وإمارات ومشيخات وجمهوريات على السواء!
حتى ليمكن القول إن اللحظات الراهنة هي الحاضر المجسَّد الذي كان ماضياً مستحيلاً ولامعقولاً، وقد أصبح هو الواقع المعقول، وهو المستقبل.
وإذا أراد الواحد منا أن يواصل الهلوسة التخييلية، ففي مقدوره القول إن ما سنراه وسنسمعه مما لا يمكن تصديقه، إنما هو تتمة طبيعية لما كان طوال هذه الأزمنة العربية السوداء، غير قابل للعقل، وغير ممكن الحدوث والتصديق، في حين أنه صار الآن المعقول الوحيد، الثابت والأكيد معاً.  


من تونس، الى مصر، الى ليبيا، الى البحرين، الى اليمن، الى الجزائر، الى المغرب، الى الأردن، ولسنا ندري الى أين أيضاً، مشاهدات ووقائع يعجز الوسيط العقلي عن تدارك حقائقها الإعجازية وتغيّراتها المتلاحقة، حتى ليعتقد المرء أن ما يحصل إنما هو من نسج الهلوسة المنتشية أو التخييل السوريالي ليس إلاّ.


سيقول قائل بين السياسة والتاريخ والثقافة: إنه زمن السقوط العربي لأكثر من خمسين عاماً، بل ستّين، مترعة بالكوابيس والأهوال والمشقات، وأشكال القمع والرعب والتخويف والتجويع، محمولة على أكتاف أنظمة سعيدة، توتاليتارية وأمنية وقوموية، مغلّفة بالشعارات والإيديولوجيات والأفكار، على أشكالها وأنواعها ومسمياتها.
فهل هو حقاً زمن السقوط الكبير؟ نكاد لا نصدّق هذا الزمن، من فرط واقعيته غير القابلة للاحتمال!


قارئ الأدب تتبادر الى مخيلته الروائية عناوين وحبكات وقصص مستلّة من روايات أجنبية وعربية، تصلح كمداخل لقراءات متتالية لبعض ما يجري في بلاد العرب المأهولة بمستحيلات الأمل والحرية والديموقراطية، تحت سطوة الخوف والهلوسة واليأس.
فها هم الجنرالات يتخبطون في متاهات تلتهم المتاهات. وها هم الكولونيلات ولم يعد عندهم من يكاتبهم. وها هم القياصرة يُقادون الى المقاصل أو الى المنافي، أو – مَن يدري؟! – يُرمَون بالرصاص. وها هم الحكّام البطريركيون تهبّ عليهم رياح الخريف، ولا يملكون سوى أن يتابعوا مصائرهم القدرية نحو آباد الهاوية العظمى.


هل نواصل قراءة أدب الواقعية التخييلية في أميركا اللاتينية، أم نهرع الى الروائيين الروس لنستدل الى العلاقة "الحميمة" بين الجريمة والعقاب، أم نعرّج على أوروبا الفرنسية والألمانية والتشيكية والألبانية، أم نسأل الرواية العربية كيف ينتفض الفينيق، وكيف تكون عودة الروح؟
لا بدّ أن قرّاءً ما - بل القرّاء جميعاً نكاد نقول - قد تركوا الصحافة المكتوبة لأهلها، وشرّعوا أبواب عيونهم وعقولهم وحواسهم على شاشات الفضائيات ووسائط الشبكة الالكترونية لالتهام الوقائع المذهلة لحظة حدوثها. فأيّ قراءة هي هذه، وأيّ وقت هو هذا؟!


رداً على مثل هذا السؤال، ثمة من يجيب: إنه وقت هذا النوع من القراءة، وقد صارت الرواية هي الواقع، والواقع هو الرواية، حيث تداخل الممكن بالمستحيل تداخلاً كيميائياً، ولم يعد ثمة وقت للأدب المترف، والتخييل المترف، ولا ربما ثمة وقت للنظر الثقافي أو السياسي "من فوق" الى ما يجري على الأرض. فالوقت، كل الوقت، لما يحصل على أرض الواقع في ليبيا، ولما حصل قبل قليل، وسيظل يحصل، في البحرين، واليمن، وتونس، ومصر، ولما سيظل يحصل عاجلاً أم آجلاً على ما يبدو، في كل مكان آخر من العالم العربي.


لكن، أليس ما يجري في هذا العالم العربي، هو الأدب نفسه، هو السينما نفسها، وقد تخلّيا عن الترف؟
وإلاّ كيف نفسر هذا الواقع الخلاّق وقد نفض عن جسمه أثقاله ومكبوتاته، مقترحاً جسماً جديداً، ولغة جديدة، ومرويات جديدة، وأبطالاً جدداً، لم يعد مطلوباً اختراعهم عبر الأدب والسينما، لأنهم يخترعون أنفسهم بأنفسهم بلحم هذا الواقع ودمائه وأحلامه؟!


بعد قليل، ربما الآن، سيهتف هاتف، وسيسمعه الجميع، وسيراه الجميع، ولا التباس: إن ما يجري من وقائع في هذا الزمن العربي الراهن يمكن اختصاره بعبارة واحدة هي الحرية.
فكل الحرية، إذاً، للعالم العربي، من لياليه هناك الى لياليه هنا.
إنه زمن الجريمة، وقد آن الأوان لينال عقابه!.