يغري معمّر القذّافي بالشتم. إذ ماذا تتركُ للتحليل تلك الكميّة المسمّاة «العقيد الليبيّ»؟ مع صدّام حسين، مثلاً، يحسّ المرء أنّه حيال معانٍ كريهة يودّ أن يقارعها وأن يراها مهزومة مغلوباً على أمرها. ومع زين العابدين وحسني مبارك، هناك معانٍ مقرفة، لكنّ لها سوابق في تواريخ الشعوب والبلدان. أمّا القذّافي فهو اللامعنى المحض الذي أنتجته الجوانب السوداء من المراحل والأنماط الاجتماعيّة التي سادت قبلاً ولا يزال بعضها سائداً. إنّه أسوأ «الأصالة» ممزوجاً بأسوأ الحداثة إذ تتصدّرها، في عرفه، أدوات القتل. وهو خلاصة أسوأ ما في الوعي الامبراطوريّ، وما في الوعي القوميّ، وما في الوعي الدولتيّ، وما في الوعي القَبَليّ معاً وعلى هيئة كيتش صارخ. إنّه ما ابتلعته حقب التاريخ المتتابعة من دون أن تقوى على هضمه كلّه، فتقيّأت منه ما لم تهضمه، بشعاً تافهاً وقاتلاً. إنّه تطفيل العقل حين يغدو هذا التطفيل شرطاً شارطاً للتعامل بجدّ مع عقل صاحبه.
وقبل السياسة والقمع والاقتصاد والفساد، ثمّة ما يدفع الليبيّ، المحكوم به منذ 1969، إلى الثورة عليه: إنّه شعور عميق بالعار من أن يمثّله، ويحجبه، هذا الكمّ من التفاهة الواثقة. صحيح أنّ الشعوب قد تخجل بحكّامها، وهي كثيراً ما تفعل، وفي البلدان غير الديموقراطيّة لا تؤخذ الشعوب بما يفعله الحكّام الذين يغتصبون تمثيلها. بل حتّى في البلدان الديموقراطيّة ذاتها، لا يحلّ الانسجام والتماثل بين الطرفين، بل المطلوب دائماً ألاّ يسود الانسجام والتماثل هذان.
لكنْ مع القذّافي، الحاكم طوال 42 سنة كابوسيّة، والممهّد لتحكيم نجله البهيّ الطلعة سيف الإسلام، والمنجب هانيبعل ضارب الخادمات...، يحسّ الليبيّ والليبيّة بأنّ المعارضة تطلع من الجلد على شكل حكّ متواصل، أو من البطن على شكل غثيان، لا من الرأس ولا من القلب. معه، هذا الذي كتم ليبيا والليبيّين وختم عليهم بالشمع الأحمر، تبدأ المعارضة من الخجل، أو بالأحرى القرف: كلّ كلمة يتفوّه بها مدعاة للقرف، وهو، بالطبع، لا يكفّ عن الثرثرة البلهاء. فإذا كان الآباء القساة كثيرين، ففضائحيّون هم الآباء الذين يجمعون القسوة إلى التفاهة إلى التخلّي.
حقّاً، كيف يُطالَب القذّافي بالتنحّي، وهو لا يملك منصباً؟، ولماذا يثور الشعب الليبيّ على نفسه فيما هو حاكم نفسه في جماهيريّته العظمى؟. وفي هذا البحر من الترّهات، تتساوى المسائل وتمضي معاً نزولاً وانحطاطاً بحيث يغدو الشعب، شعبه، فئراناً ومرضى وجدوا من يعطيهم «الحبّة» أو من يندسّ فيهم، والاندساس يمتدّ، بالطبع، من الولايات المتّحدة إلى أسامة بن لادن.
فهو، إذاً، اللاأحد واللاعقل الذي يريد أن يكون، بفجور أناه العُظاميّة المنتفخة، كلّ أحد وكلّ العقل. ووراء سلوك كهذا تكمن قناعة عميقة بأنّ ما من كائن، في بلده أو خارجه، يحبّه ويريده، وما من كائن يستقبله حين تلفظه ليبيا. فإذا كان هناك منتفعون من سلطته في الداخل والخارج فهؤلاء لا يُركَن إلى ولائهم ولا يُعوّل على ودّهم الكاذب. والوجه الآخر للقناعة تلك يقينٌ صائب لديه بأنّه يحتلّ، منذ 1969، موقعاً لا يستحقّه، ولهذا نراه يُديمه بهذا الخليط من الفجور القاتل والمسرَحة الرخيصة.
وكي نقدّر القذّافي حقّ قدره يكفي أن نتخيّل لو أنّه كان يمتلك قنبلة نوويّة، أو لو أنّه لم يسلّم ترسانته الكيماويّة والجرثوميّة تسليماً «استباقيّاً». فهل كان هذا العقيد ليمتنع عن استخدام أشدّ الأسلحة فتكاً وتعرّضاً للتحريم ضدّ أبناء شعبه؟. حقّاً يستحقّون الشكر من أجبروه على ذلك، ويستحقّون اللعنة من انتقدوا يومها، من موقع «وطنيّ وقوميّ وإسلاميّ»، إجباره عليه.
لكنّ ما لا ينبغي نسيانه أبداً أنّ هذا العقيد ما كان ليصل إلى الموقع الذي وصل إليه لولا قيامه بانقلاب عسكريّ ناصريّ ووحدويّ جدّاً! لقد كان إغلاقه القاعدة الأميركيّة في ليبيا العتبة الأولى في صعوده إلى «مجد» داس به ملايين الليبيّين. وكنّا، حين قتل ضحايا لوكربي أو الملهى البرلينيّ، نجد له الأعذار ونستغرب، بل ندين، «المؤامرات» التي تستهدف العرب والمسلمين! هكذا شاركنا، في واحد من المعاني، هذا الدجّال «الوطنيّ والقوميّ»، كما شاركنا، ونشارك، دجّالين آخرين، ضلوعَهم في دماء لم تنِ تتوسّع وتوسّع حلقات الضحايا. فكيف استقبلت عقولنا الخديعة إلى هذا الحدّ؟ كيف وسّعت لها المطارح؟ وكيف أذعنت لاجتماع التفاهة والوحشيّة على النحو المسمّى معمّر القذّافي؟
|