في رحلتي الاخيرة الى مصر، اسبوعين ما قبل الحوادث الاخيرة، سألت سائق التاكسي الذي كان يقلّني الى المطار ان يفاضل بين حكم كل من الرؤساء جمال عبدالناصر، وانور السادات، وحسني مبارك. اجابني السائق: "خلال حكم الرئيس عبدالناصر كانت كرامة مصر مرفوعة لكنها كانت مستهدفه من الخارج فخسرت مصر ارضها وتآمر الجميع عليها. اما الرئيس السادات فقد سلم كل شيء من اجل استعادة الارض. واليوم مع الرئيس مبارك فان مصر تعيش بأمان ولكن من دون كرامة ودور".
صعقني هذا التصوير وقلت في نفسي الى متى يستطيع شعبٌ ان يعيش من دون كرامة ودور؟ وعندما وقع انفجار الكنيسة في الاسكندرية شعرت وكأن مصر قد دخلت في نفق اللبننة. ففي تلك اللحظات ظهرت الهوية القبطية فوق الهوية القومية المصرية الجامعة وشعرت ان بذور الفتنة الداخلية بين المسلمين والاقباط قد تفتحت واخذت مسارها نحو التحقق. بين استفتاء جنوب السودان وحوادث الاسكندرية والحوارات اللبنانية العقيمة ظهر العالم العربي وكأنه امام مصير محتوم من التقسيم والفتن يسير بلا وعي في مسارٍ انتحاري لا عودة منه. واذا بثورتي شباب تونس ومصر تقلبان المعادلة راساً على عقب وتعيدان تصويب المسار الاعتراضي العربي في موقعه الصحيح.
لقد أكد هؤلاء الشباب ان المعضلة الرئيسية في العالم العربي هي في طبيعة النظام العربي السياسي القائم وليس بأي شيء آخر. فهو نظامٌ تسلطي عائلي قبلي مذهبي احتكاري وفاسد. ومن اجل الحفاظ على هذا النظام تُستباح الارض وحرية المواطن وكرامة الشعب ولقمة عيشه ونسيجه الاجتماعي. ومن اجل الحفاظ على هذا النظام تُقدم كل التنازلات السيادية للخارج. فاذا بنا امام واقع امةٍ يهيمن عليها الخوف والجهل والتطرف المذهبي والطائفي مكشوفة امام كل طامعٍ بأراضيها وثرواتها. وها هي ثورة كل من تونس ومصر تقول لنا جميعاً ان الحل في الوطن العربي ليس بالاقتتال المذهبي والطائفي وليس بهجرة ابنائه الى خارجه بحثاً عن لقمة عيش وحبة كرامة وليس بالخضوع للاملاءات الخارجية وتقديم التنازلات الواحدة بعد الاخرى للطامع، بل بالانتصار على تحكم شعور الخوف والذل فينا من اجهزة هذه الانظمة والتوجه بوضوح وقوة نحو تغيير هذا النظام العربي واستبداله بنظامٍ يؤسس للمواطنة والحرية وحكم القانون والديموقراطية وتأمين حاجات الناس.
ان اهم ما في ثورتي تونس ومصر ان شباب مصر قد اعلنوا امام الملأ بوضوح انهم قد نضجوا بما فيه الكفاية للتحرر من الحاجة الى الاب الراعي المرجع وصاحب السلطة المطلقة. انها النقلة النوعية المطلوبة للقول ان الوطن لا يُحكم بنظام العائلة القديم حيث يتحكم الأب بكل شيء فيها بل انه يقوم على شراكة بين كل ابنائه يتساوون في صناعة القرار فيه وتقرير خط سيره ومصيره. انها النقلة النوعية المطلوبة للقول ان المال العام يُصرف بمعرفة وخدمة كل الناس وليس بمزاج ومصلحة صاحب السلطة والمتحكم فيها. انها النقلة النوعية المطلوبة للقول ان مجلس الشعب يجب ان يضم كل فئات الشعب بناء على الارادة الشعبية التي تظهرها انتخاباتٍ شفافة وحقيقية. انها النقلة النوعية المطلوبة لانشاء احزابٍ تمثل مصالح الناس الاجتماعية وليس انتماءاتهم المذهبية والاثنية. انها النقلة النوعية المطلوبة للقول ان القانون يجب ان يكون فوق الجميع يطبق بالتساوي بين الحاكم والمحكوم. انها النقلة النوعية المطلوبة للقول ان حرية الرأي هي جواز العبور للحصول على الكرامة والنهضة والتقدم. انها النقلة النوعية المطلوبة لكي تحتل مصر موقعها الطبيعي في العالم العربي وتلعب الدور المطلوب منها في الساحتين الاقليمية والدولية. انها النقلة النوعية المطلوبة لبناء الاقتصاد الوطني المنافس غير المرهون لارادة الانتهازيين ومصالح الاخرين.
في شارع بورقيبة وميدان التحرير اثبت الشباب العربي انه فئة ناضجة وفاعلة واعية لمصالح بلدها وحريصة على مستقبلها. في شارع بورقيبة وميدان التحرير تساوت المرأة مع الرجل في صناعة التغيير والتأسيس لوطنٍ جديد. في شارع بورقيبة وميدان التحرير التحم الاسلامي مع العلماني في النضال من اجل وطنٍ حرٍ و أبي. في شارع بورقيبة وميدان التحرير لم يسأل أحدٌ الآخر اذا كان مسلماً او مسيحياً واذا كان عربياً او قبلياً. في شارع بورقيبة وميدان التحرير ظهرت الاحزاب التقليدية المعارضة منها والموالية قديمة عقيمة فاقدة القدرة على فهم آليات ومفاهيم النظام العالمي الجديد. في شارع بورقيبة وميدان التحرير تحالف الغني المتنور مع الفقير المعدم في المطالبة بوطن ودولة شفافة تحوي وتحمي كل ابنائها. وأخيراً في شارع بورقيبة وميدان التحرير كان الجيش الى جانب شعبه وليس في خدمة رأس النظام وانتهاكاته. التغيير لم يزل في بدايته وستمر تونس ومصر في تقلبات واضطرابات كثيرة قبل ان تستقر الامور فيهما كما ان الثورتين التونسية والمصرية ستنتقلان حتماً الى كافة الدول العربية.
ويبقى السؤال المركزي هنا هو: اين نصرف ثورتي تونس ومصر في لبنان؟ الطرف الوطني يرى في الحدثين المصري والتونسي انتصاراً له ضد الاستراتيجيات الاميركية والاسرائيلية في المنطقة والطرف السيادي يجد فيه دعماً لمساره الساعي الى تعميم الحرية الفردية والديموقراطية. اما المواطن اللبناني ابن البلد فيقول كم هو سيئ الحظ هذا البلد بسياسييه واحزابه. في 25 ايار عام 2000 سطّر هذا الشعب اللبناني اعظم انتصار سجله العالم العربي على اسرائيل. ففي حرب اوكتوبر سنة 1973 قاتل الجيشان المصري والسوري اسرائيل الا انهما لم يحررا الارض. اما لبنان بشعبه ومقاومته فقد نجح بطرد الاحتلال الاسرائيلي من كامل الارض اللبنانية دون توقيع اي اتفاق ذلٍ مع دولة الاحتلال. عندما تحررت ارض لبنان سنة 2000 اعتبر الشعب اللبناني ان هذا الانتصار هو ملكه وليس ملك حزبٍ او طائفة او منطقة. وفي 14 آذار 2005 كان 25% من الشعب اللبناني في ساحة الشهداء يطالب بالحرية والكرامة والسيادة. يومها لم يسأل احدٌ الاخر عن دينه او مذهبه او منطقته. اما سياسيو لبنان فقد عملوا على تصوير التحرير وكأنه عمل ميليشيوي وحولوا نضال الشعب اللبناني من اجل الحرية والكرامة الى بازار لخدمة اهوائهم ومصالحهم الذاتية.
كلنا يتطلع لكي تنتقل عدوى تونس ومصر الى شباب لبنان حتى يسطروا انتصاراً تاريخياً على النظام السياسي المتخلف في لبنان. انتصاراً ينهي هيمنة هذا الطاقم السياسي المتخلف الطائفي المذهبي والفاسد على شعب لبنان ومؤسساته. انتصاراً يحول كل من المقاومة ونضالات ساحة الشهداء الى قوة فخر وعز لهذا الشعب وليس نقاط تصادم واختلاف. ويبقى السؤال كيف يمكن تحقيق ذلك؟ النقطة الاولى هي في العمل على تحويل الخطابين المتصادمين في لبنان الى خطاب جامع وموحد للقوى الشعبية. لا بد لكل الشعب اللبناني من ان يفخر بنجاح المقاومة في تحرير ارضه من الاحتلال ومن تحويل لبنان الى رقمٍ صعب في المعادلة العسكرية والسياسية للعدو. ومن هنا فان دعم المقاومة هو خيارُ استراتيجي يجب عدم المساس به كما هو الخيار الاسرائيلي في دعم المؤسسة العسكرية للدولة الاسرائيلية. الا انه لا بد من توسيع تعريف المقاومة من كونها أداة في يد حزبٍ وطائفة الى المعنى الاوسع الى كونها اقتناعاً عميقاً في وجدان كل لبناني ينطوي عليه بناء جيشٍ مقاوم وفعال الى جانب قوى شعبية مهيأة للدفاع في المناطق المعرضة للخطر. من هنا لا بد من ان تضم هذه المقاومة كافة ابناء المنطقة بغض النظر عن لونهم المذهبي.
ومن طرفٍ آخر لا بد للشعب اللبناني من ان يتوحد في الدفاع عن الحريات والديموقراطية والتعددية ويجابه كل المحاولات لتحويل النظام اللبناني الى نظامٍ مخابراتي يضع كل مؤسسات لبنان في خدمة اهدافه في السيطرة والتحكم. ولا بد للشعب اللبناني من ان يتحد في الدفاع عن استقلالية القضاء واحترام حق المواطن اللبناني في الاختيار الديموقراطي الحر ومقاومة الفساد واحتكار موارد الدولة.
هذه بعض مقومات الخطاب الوطني الجامع الذي يمكن ان يشكل البديل الايجابي من الخطابين المتصادمين على الساحة اللبنانية. في النهاية ودون تبجح يكفينا فخراً ان لبنان كان السباق في اعطاء افضل مثل في المقاومة والتحرير كما كان السباق في النزول السلمي على الارض للمطالبة بالحرية والديموقراطية الحقيقية. واليوم علينا ان نكون السباقين في طرح الخطاب الوطني المتخطي للانقسامات الطائفية والاثنية، خطاب قادر ان يطمئن الجميع الى موقعهم وحقوقهم في الوطن بغضّ النظر عن اي انتماء اجتماعي. خطاب يقوم على احترام الفرد كانسان صاحب حقوق بغضّ النظر عن شكله وهويته وانتماءاته الدينية والعرقية وقدراته الجسدية. ان مسؤولية اطلاق هذا الخطاب تقع على شباب لبنان ومثقفيه. "التويتر" و"الفايسبوك" في تصرفكم فاصنعوا تاريخكم بدل من ان تصنع لكم حروب اهلية وصراعات عقيمة.
(استاذ العلوم السياسية في جامعة البلمند)
|